بداية من الغد.. رئيس الحكومة يؤدي زيارة إلى كوريا    بقلم مرشد السماوي: أيام عشر حاسمة قبل موعد عيد الأضحى ستكون حبلى بالقرارات الحازمة وسد الشغورات    لأول مرة في الكويت: نجوم مصريون يحيون 'ليلة النكد'    نقابة الصحفيين الفلسطينيين تستنكر اعتقال الاحتلال الصهيوني لصحفية من وكالة الانباء الفلسطينية    وزير الرياضة يشرف على نهائي كأس تونس لكرة اليد أواسط    الترجي يفوز على الافريقي 2-1 ويصبح على بعد نقطة من التتويج..    عاجل/ جريمة قتل شاب بعد رميه من طابق علوي..وهذه حصيلة الايقافات..    عاجل/ يهم المترشحين للبكالوريا وزارة التربية تتخذ هذا القرار..    هذه أسعار الأضاحي بهذه الولاية..    الترجي يفوز بالدربي منذ الشوط الاوّل وشوط ثان للنسيان    هرقلة: مخدرات وعملة أجنبية وتونسية في سيارة يقودها تونسي مقيم بالخارج    احترق منزلها.. إصابة الفنانة سمية الألفي باختناق    مكتب منظمة الصحة العالمية بتونس: معدّل عمر متعاطي أول سيجارة في تونس يناهز 7 سنوات    دربي العاصمة.. الترجي يتقدم على الافريقي في الشوط الاول    تنصيب احميدة التومي رئيسا للمجلس الجهوي بنابل    التشكيلة الاساسية لمباراة النادي الإفريقي والترجي    الطبوبي: الاتّحاد كان مع 'لحظة 25 جويلية'.. لكنّه لا يعطي صكا على بياض    المراقبة الاقتصادية بولاية تونس تضبط برنامج عمل خصوصي خلال فصل الصيف    الترجي يُحيل أصيل النملي على لجنة التأديب    الليلة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 26 درجة    القلعة الصغرى: الاحتفاظ ب3 عناصر إجرامية مفتش عنها    أنس جابر في ربع نهائي رولان غاروس للتنس    وفاة المخرج الشاب محمد أمين الزيادي    سيدي بوزيد: تراجع عدد الأضاحي إلى 110 آلاف رأس    وفاة المخرج محمد أمين الزيادي..#خبر_عاجل    وزارة الأسرة: معاينة ممارسات مخالفة للقانون في بعض التظاهرات الاحتفالية ببعض مؤسسات الطفولة    المخرج التونسي الشاب محمد أمين الزيادي في ذمة الله    اعلام برياح قوية مثيرة للرمال والاتربة بالجنوب ليل الأحد ويوم الإثنين    ولاية تونس في المرتبة الأولى من حيث عدد حوادث المرور    شركة اللحوم تشرع في بيع أضاحي العيد بداية من 8 جوان الجاري    كوريا الشمالية تُهدي جارتها الجنوبية 600 بالون نفايات    بنزرت: وفاة اب غرقا في شاطئ سيدي سالم وإنقاذ طفليه الصغيرين    متى تبدأ ليلة وقفة عرفة؟...وموعد صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    القصرين: 5 آلاف و991 مترشحا لمناظرة الباكالوريا دورة 2024    هذه الدولة تعتمد أول لقاح للسرطان في العالم    بعد زيارة الصين: رئيس الدولة يعود الى تونس..    أفضل الخطوط الجوية لسنة 2024    خلال زيارته المكتبة الكبرى لشركة "هواوي": رئيس الجمهورية يهدي المكتبة مؤلفات تونسية (صور)    هزّة أرضية في المغرب    النادي الصفاقسي يطلق منتدى للتشاور مع احبائه ومسؤوليه السابقين    أحمدي نجاد يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية في إيران    ايقاف 22 محتجا خلال تظاهرة داعمة للفلسطينيين في متحف بنيويورك    مدير عام منظمة الصحة العالمية.. الجائحة التالية ليست سوى مسألة وقت    برنامج الغذاء من أجل التقدم 110 مليون دينار لدعم إنتاج التمور في تونس    انقسامات داخلية حادة تهز الاحتلال حول خطة بايدن لإنهاء الحرب    عادل خضر نائب لأمين اتحاد الأدباء العرب    محرزية الطويل تكشف أسباب إعتزالها الفنّ    بداية من اليوم: اعتماد تسعيرة موحّدة لبيع لحوم الضأن المحلية    تجربة أول لقاح للسرطان في العالم    وزير الصحة : ضرورة دعم العمل المشترك لمكافحة آفة التدخين    اتحاد الفلاحة: هذه اسعار الأضاحي.. وما يتم تداوله مبالغ فيه    قتلى في موجة حر شديدة تضرب الهند    من الواقع .. حكاية زوجة عذراء !    غمزة فنية ..الفنان التونسي مغلوب على أمره !    الشايبي يُشرف على افتتاح موسم الأنشطة الدّينية بمقام سيدي بالحسن الشّاذلي    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 2 جوان    من أبرز سمات المجتمع المسلم .. التكافل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات    مواطن التيسير في أداء مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليرابيع العمياء

توقفت العربات الثلاث أمام الحانوت الصغير المظل بأعراش شجرة –الكاكتيس – التي لا تنفذ الشمس من داخلها.. الجدار مدهون بطلاء رديء يتلاشى مع الزمن كلما احتك به أحد الحرفاء، وفوق الباب لوحة لعلامة مشروب غازي تناثر عليها الجير، وكتابة بخط بدائي منحرف : هنا بيع الدخان...
النحل يحوم فوق نفايات الشاي، ويتسلق العرائش.. ويقترب من وجه – عبوده- الذي يظل واجما كالصنم لأنه يدرك عاقبة محاربته، فستحل به اللسعات والأوجاع والأورام.. ماذا بإمكانه أن يفعل في هذه الوضعية المتدهورة، وهذا الكساد الذي يخنقه ويضيق به صدره.. لقد أصبح يدخن علبتين، وازداد وجهه سوادا يوما بعد يوم.. وانخلعت الأسنان الأمامية فبان الفم كالداموس وتجعد من الجانبين.. واللباس لا يعبر عن أي ذوق، جمازة في لون البن وسروال عربي أخضر، وحذاء بدون جاربين، حاول مرات للوقوف لأن البطن تضخم واستحوذ على كامل الجهة الأمامية، وتدلى إلى فوق الركبتين.. ودخل الحانوت متوعكا، مسرحا سرواله من خلف يتقدم في تمايل شديد، ثم ألقى نظرة مليئة نحو العربات.. كانت الأولى يجرها بغل أصهب متين، يستنفر من ذبابة حطت على مشفره، فتغضن جلده، وحرّك رأسه، واللجام يكبح شدقيه، ويمنعه من قضم الحشيش ولوكه.. أما النسوة فكن جالسات في دائرة صغيرة، على رؤوسهن أردية حمراء، ويجتهدن في الاتقاء بالأردان التي تستر وجوههن، وتحت العربة صندوق خشبي به لوازم الشاي وقارورة زيت وبعض الخضر.. وحين قفز – حمّه – من العربة، ولطم الأرض بقدمه الغليظ الحافي، جفل البغل واهتز، وصوب رأسه نحو السماء، وجحظت عيناه الرصاصيتان.. وتهالكت النسوة على بعضهن صائحات، مقرقرات، ثم استحال الخوف إلى ضحك وتبادل اللوم والمزاح.. وصاح حمه في الحوذيين الآخرين : " هيا.. الخبز موجود.. وكذلك الدخان والنفة.." .. وابتسم – عبودة – بشيء من التقتير، والسيجارة تنتفض من ذلك المخش المضبب وهو يراوح بين إنزال البضاعة من الرفوف وتبادل الحديث مع – حمه – سائلا إياه في مساعدته للبحث عن بغل مثل الذي عنده. واشتكى من غلاء السوق وغش السماسرة وتخيلهم وقد اشترى ذات مرة بغلة عمياء ولم يتفطن إلاّ عندما عافت العلف ولم تتناوله وخسر فيها نصف الثمن، وابتاع مرة أخرى نعجة درداء غير قادرة على الجرش... ووعده – حمه – بالاجتهاد والمؤازرة.. أما العربة الثانية الزرقاء، فكان يجرها حصان بهيج يبدو على محياه العتو والإجلال، يحرك قوائمه باستمرار، ويتقلص منخراه عند هبوب النسيم، كان يجر عربة ضخمة ذات ألوان زاهية، وعليها جمع من الفتيات الجميلات بلباسهن المشمر المزركش.. تتقد أجسامهن الملتهبة بلظى الحب، وعلى خدودهن ألوان الورود، وفي نظراتهن الزائغة تعبير عن الشبق والأمنيات، ومن ابتساماتهن تشرق الآمال وتنفتح الآفاق العريضة التي تعشق الربيع والنوار والضوء.. وتختزن صدورهن المنفلتة أسرار الغرام في أبهة واعتداد.. وبينهن فتاة تفيض بالحسن ينبعث من عينيها النرجسيتين بريق في نعومة وهدوء.. وكانت أكثرهن سكونا وتأملا.. وأقلهن مشاركة في الضحك والغناء.. وتلهو بين الفينة والأخرى بخصلات شعرها المجدول، فتدخل النسائم فيها وتذروها لتحجب جبينها الهلالي وبقاعا من وجهها المقمر..
أما العربة الثالثة فكانت تعيسة يجرها حمار أمهق، مدلى الأذنين، منتف الجانبين، في ساقه نقرة تعطله عن المشي.. وعليها نفر من الشيوخ ملتفون بعباءات في لون الخشب، يجسون الجيوب العميقة لاستخراج النقود، وقد مددوا سيقانهم النحيفة كالأعواد، وتعصبوا بالبشاكير ولفائف الكتان، فوق وجوه داكنة معصورة ولحي شعثاء وأفواه ذات أسنان ناتئة تصنع ابتسامات طبيعية ودائمة.. والعجيب أن – العروسي – شيخ الثمانين يتدحرج بخفة من العربة ويقفز برشاقة عند الصعود والجلوس في الصدارة دون عناء وصعوبة.. وقف – عبودة – في باب الحانوت ينقل نظره بين العربات، ويسأل عن كل امرأة وفتاة، عن أبيها وأمها، وأهلها وعرشها، ثم يربط الأنساب ببعضها، ويبذل منتهى جهده في سرد الأسماء ومعرفة الآباء والجدود، وكلما اهتدى إلى قرابة إحداهن عيّرعا واتهمها بنكران الدم والعشرة.. وتوعدها مازحا ومعاتبا بعبارات تنم عن الرّحابة والتسامح.. لكن – حمه – في وجهه سؤال قلق.. لم يتفطن له – عبودة – وهو يداعب – العروسي – قائلا : "شد روحك يا شايب رد بالك تطيح".." وخاطبه ضاحكا : " ريح العجوزة وخذ طفلة صغيرة..". فزم – العروسي – وهو يمسك المقود : " واش خصني.. عمك مقروح..".. وتدوي القهقهات وتنفرج الأسارير.. و-حمه- يستنجد ب - عبودة – لينعته عن طريق سيدي – فرج طاهر السروال –
- لا باس...
- الحمد لله.. لا باس...
- خير إن شاء الله .. هل عندكم مريض ؟
- لا .. مرض آخر.
- توكلوا على الله.. إنه صاحب بركة عظيمة.. ويده مليحة.. يضرب يعمي..
- أنعتنا عن الطريق..
- وسع بالك وافهمني.. واصلوا السير مع هذه الثنية خمسة كيلومترات تقريبا، ثم عند التقاطع، امشوا في طريق الشمال إلى أن تعترضكم السبخة، وفي آخر الأفق ستلوح لكم القبة. بالله من هو المريض ؟
وصمت – حمه – كأنه يبحث عن مخرج لأنه يريد أن يحافظ على السر.. فالفتاة- سارة – ينتابها الصرع أحيانا، ويكشف لها الوهم عن أشباح ومشاهد مرعبة.. وكم هبت من نومها فزعة، صارخة من هول ما تراه.. وبعد محاولات عديدة استقر رأي هؤلاء على زيارة – سيدي فرج طاهر السّروال – لأن يده تجمد الماء... كانت العربات تكاد تلامس بعضها، متباطئة بعض الشيء حتى يتسنى للحمار الأمهق مسايرتها.. عالم الطريق حافل بالصور والأحداث.. ورغم بساطتها فإنها دسمة وعميقة.. طيور نافرة، مهفهفة في الفضاء، تسبل أجنحتها كلما همت بالنزول.. قطعان الأغنام ترعى في هدوء، لا همّ لها سوى ما تلتهمه في بطونا من أعشاب، وتنسى ما حولها.. غناء أحد الرعاة الحالمين يتأتى من بعيد.. يشنف عزفه الآذان. ويبتسم للموسم الأخضر والمستقبل الزاهي.. تتمدد الهضاب متواترة في سكون عميق.. خزانات المياه الشاهقة تتربع في الأعالي لتمس السماء بأحواضها الضخمة.. جرار – بورشادة - تحمل الرياح طنينه من الفجاج وتخضه على المسامع، ثم يظهر كالجعل يخبو هديره هنيهة ويتضخم مع مجاري الهواء.. كان – بورشادة – يختفي عن الناس أحيانا لكثرة الطلبات، فيضرب المواعيد ويبطلها ويتلقى السب واللعن برضا تام لأنه تعود على ذلك.. وكلما ذهب لجلب – المازوط – سلك طريقا آخر، وراوغ كالثعلب واستعمل كل المكر لإيهام الآخرين ومغالطتهم.. الطريق ما زالت طويلة، متعرجة، حرشاء.. والعربات في خط واحد.. و – العروسي – يتحدث بصوت حاد، متفرقع، ولا تنتهي حكايته عن الجنية التي تراءت له في الليل، واعترضت سبيله وهي في صورة عروس بهيجة لم ير في حياته أجمل منها وقد طمع في حليها المتأرجح على صدرها، وانبهر من وجهها الوضاح وغنجها وهي تتمايس رافلة في الحرير، ولما اقترب منها صكته واستحالت أمامه أتانا ذات حوافز كالأطباق وشفاه متورمة وأسنان غليظة ومفلولة.. فلما عرف حقيقتها عيرها وسخر منها، ولكن الجماعة لم يصدقوه واتفقوا أنه فرّ من أمامها، واتقى شرها.. فأقسم بأيمان غليظة أنه لم يقل إلا الحقيقة، وجراب – مسرّة – لا ينضب من هذه الحكايات والمغامرات، ومشكلته تتمثل في الحلف بالقرآن والنبي والله الذي يدقه ويعميه... أما البنات فكن متلهيات ب- سارة – ويتنهدن بتعاطف معها، وينبشنها للاستماع إلى رواياتها الغريبة.. وهي تلقي نظراتها الساحرة إلى البعيد في هدوء ودعة وضياء الشمس المتوهجة يذوب على وجهها الناعم.. مسكينة – سارة – هل أصابها مس، أم تملك عليها مارد من الجن.. أم هي واهمة فتتخيل وتغالط نفسها.؟ يا سيدي فرج يا طاهر السروال – أحضر لها وخلصها من التابعة.. قالت إحدى العجائز وهي ترتشف النفة، مخلعة المريول، موشمة الصدر المتهدم.. تكاد تسرطها بعينيها الغارقتين في التماع سحيق.. العربات فوق – كدوة أولاد رحومة – حيث يتجلى العالم كله.. سارت القافلة ساعة أو أكثر بقليل.. ووصلت التقاطع في أعلى هذا المكان الخلاب.. هواء بليل يدغدغ الأجسام ويعبث بالثياب فيلطخها ويخبطها.. مساحات واطئة ومنحدرة يكسوها الاخضرار، تخترقها حقول الزياتين في طوابير مستقيمة ومتوازية.. قال – حمه – بنبرة منتصرة لنسلك الطريق الشمالية.. إلى هناك، وسنحاذي السبخة لتي قال عنها – عبوده الحوانتي – كانت القبّرات والعصافير الصغيرة جذلانة، هازجة.. تمرح في الفضاء الرحب طليقة.. وأسراب الحمام تتهافت على حقول القمح والشّعير لتنقر وتتمرغ.. كتلات صغيرة من السحاب تلوح كالقوارب المشرعة في زرقة السماء.. ونخلة فارغة كدس الرعاة الحجارة تحتها وحرقوا الشعف المحيط بها.. قال – مسرة – بصوته العملاق المجلجل: " يا حسرة على الصغر.. ثم أقسم بأغلظ الأيمان كعادته وأشار بيده وواصل الحديث عن سكرته ب - اللاقمي - التي دامت ثلاثة أيام، وناحت عليه أمه متيقنة أنه مات.. ثم قام حيا... وظل يتأمل النخلة معددا أوصافها وفضائلها.. مذكرا بأنها نزلت في القرآن، وأكلت منها السيدة مريم، وكان النبي يحب تمرها واستفاد الناس من جريدها وجذوعها، فعلق – حمه – بسخرية : أما أنت فانتفعت منها بالسكرة التي كادت ترحل بك هذه من هذه الدنيا فتموت كالكلب... فاستخفّ – مسرة – من كلامه وتمادى مواصلا ما يختلقه من غرائب وأحاديث... الطريق الشمالية تصبّ في السبخة ثم تنعرج لتحاذيها... الضباب يتبخّر فوق مساحات الملح المصطبغة بألوان الشمس في بعض المواقع المشعة... مجموعة من الجمال البنية تقتات الحميض. وتحرك الأغصان لتنتش منها، ثم ترفع الرؤوس وترحي الأشداق وتعود من جديد .. وهناك من الفتيات من لم تشاهد الجمل في حياتها، فاقتنص – مسرة – تعاليقهن، وتنهد على أيامه وعشرته مع الجمال، ثم صفن عن ذراعه الهزيل ليكشف عن عضة الجمل عندما زجره وهو يغرس المحراث بما أوتي من جهد، ولما رفض أوامره زجره بالسوط، فدار عليه ونهشه وكاد يقلع زنده.. قال : " كانت الجمال أليفة ولكنها غادرة أحيانا.. ذهبت البركة معها..".. كان حديث مسرة كمن يصب في واد.. طغت عليه الثرثرة، وهو لا يحس باهتمام أوعدم اكتراث من حوله.. ومهما حاول البعض إخماده فلن يكف عن الهذيان.. الطريق المنعرجة تصعد وتهبط، تنحسر وتتسع.. تمس حاشية السبخة المبتلة، اللينة.. فتكاد العجلات تغرق، ثم تعوج وتنفر لتنأى عنالمواضع الزلفة.. قالت العجوز بصوت خفيض مخنوق : " هل وصلنا؟ أين نحن الآن؟.." أجابتها إحداهن :
- نحن في سبخة سيدي فرج طاهر السروال.. سنصل بعد قليل..
- ربي يوصلنا سالمين ويكون في عون وقبول – سارة – بنيتي..
تقهقرت السبخة بعد رحلة متعبة، أرهقت الدواب، وأفرزت جلودها المبللة بالعرق رائحة عطنة.. وتعطلت حركاتها، وتثاقلت الحوافر.. كانت المسافة بعيدة وشاقة.. وفي المنتهى برزت القبة المثقوبة من الأسفل فوق جدران جيرية وأبواب غليظة مدهونة بالأخضر، وهناك أقواس على عرصات من الكذال تتنافذ في ساحات مبلطة.. أمام المقام انتشرت الجرارات وربضت السيارات والعربات والأحمرة والخيول.. سوق ناشطة.. بيع وشراء.. وخلف الجدران حيث الظلال ترابط النسوة أمام القدور الفائرة المقرقرة، يستفززن المواقد، فتضج النيران في اتقاد واستعار.. وحول الأطباق والموائد أطفال يشكون الجوع ويلتوون وقد نفد منهم الصبر، يعللون أنفسهم برنين الكؤوس والطرق على الصحون والقرع بالملاعق... وفي ناحية أخرى يتلهى الجزارون بالذبائح والسلخ وحمل أواني اللحم.. ثغاء وبكاء وصياح وصخب من كل صوب.. اختراق سافر لكل معروض.. رائحة الشواء تعج في المكان والأبخرة تنطلق شفافة ملتوية في انحناءات متعددة وتتسرب إلى الأنوف والأدمغة حسب نوع الرائحة.. وجدت البهائم ضالتها تحت الخرّوب حيث الظلال المنتشرة الوارفة.. والمعالف المعبأة.. نزل الجميع بالساحة الكبرى التي تؤدي إلى المقام.. كل واحد يعاني من مرض.. كم تكشف الأسقام في مثل هذه المناسبات.. "الجلف.. الكحلي.. الحجر في الكلوة.. بوصفير.. التابعة.. الجنون.. داء المفاصل.. الخنزير والخايب.." طبيب واحد يشهد له كل وافد، محتار يائس ومقهور من ويلات المرض، هو – الحاج موسى – حفيظ سيدي *- فرج طاهر السروال - ... من المحظوظ الذي سينال رضاءه ويقبله في هذا اليوم الأزرق بين هذه الجحافل المتهاطلة، والمتهافتة كالنمل... من يفوز بالبركة ؟ الخدم على الأبواب قائمون، يسجلون الأسماء ويمنحون المواعيد، ويبجلون الوافدين من الأماكن القاصية.. هذا حسين الأعمى – يقودونه والعكاز معلق في ذراعه، يتلمس ويدفع ساقيه ببطء كأنه غاطس في الوحل وبمجرد ولوجه من تحت الستار حتى تعالت الزّغاريد، والأدعية.. وهذا – عمارة – صدمته إحدى دواليب المطحنة فالتوت ساقه ونتأ العظم من ركبته، فكبسها وهو لا يقوى على المشي... وهناك امرأة ظلت عاقرا أكثر من عشر سنوات ولم تنجب وكانت تمني نفسها بمولود فلم تتحقق أمانيها وها قد جاءت باحثة عن البركة.. وفي ناحية أخرى – العم مقطوف بن التيجاني – ينفخ، فيهتز صدره ويتجلجل من ضيق النفس.. ولم يشف من الفدة التي ضيقت عليه الخناق وكادت تطلع بروحه.. أما – مسرة - فكان باركا أمام الكانون، ينفخ ويتذوقون الشاي، ويحرك البراد وقد ازدحم حوله جمع من الشيوخ والكهول وهي في منتهى السعادة حين يراهم يستمعون إلى قصصه الخيالة، ثم يمدّ الكأس تلو الأخرى يحثه الانشراح لاغتصاب الأحاديث، وافتكاكها ونسي دوره في عرض نفسه لأنه يشكو من أعراض الصداع.. فالشقيقة أرقته كثيرا وأطنبت في إيلامها وأثرت على مزاجه فأصبح مصابا بمرض الحديث الفارغ.. وجاء دور – سارة - .. لم تصرخ ولم تزعق.. لم تبد عليها أي أعراض.. كانت رائعة في كل شيء.. جدائل الشعر.. القوام المعتدل.. الوجه المستحم في الضياء.. المفاتن البارزة.. طفلة العشرين أو أقل بعام.. اختلى بها – عبدالمؤمن- بواب المقام وأوصاها بالشجاعة والطّاعة والامتثال ل - سي الحاج – حتى يكون الشفاء على يديه وتتخلص من معاناتها نهائيا.. وأمر أمها بمصاحبتها إلى باب الغرفة فقط.. والدعاء لها ببركة سيدي – فرج طاهر السروال- .. المعاليم تقتطع من الجيوب قبل العلاج.. حسب النوعية وطريقة المداواة إما بالدواء أو بإجراء العملية تحت – الزاورة – ترتفع الأسعار وتشط كما يريد الحاج موسى ويسطره بدون مساومة أو نقاش أو شروط... كان - سيدنا – يتجول بين المرضى، مهدل الجبة، سرواله العربي ينزل إلى مستوى قديمه، وبيده مروحة السعف.. وبمجرد أن لمح – سارة – حتى انحبس في مكانه، وتكورت العروق في عنقه، وظل يسترق الأنفاس وقد اكتوى من بهائها وخاطبها :
- عملت فيك الكلاب.. سوف أنحي قديسهم.. غني أراهم الآن منكسين، مذعورين.. الويل لهم.. ما أرضاهم في العيب.. يطمعون في هذه وينسونني.. لا بد من عقابهم ولن أتسامح معهم.. ويحك يا عمروش وجماعتك الخنازير.. الموت والنار.. الحبس والعذاب.. ادخلي.. ادخلي..
كل الغرف تعج بالمرضى ولكن هناك ضيوف مبجلون وراء ستائر أخرى.. وهناك سدات وزوايا وخبايا عديدة.. كلف الحاج سدنته بالنأي بها خلف الأبواب إلى أن يجيء دورها، وسيهيض بضرب البندير وروائح الجاوي المتعججة التي تملأ الفضاء ببركة سيدي فرج طاهر السروال.. تضاءلت الوجوه وراء البخار.. لم تعد بينة كما يجب في مثل هذه الظروف ترتكب الحماقات، وكم من ضحايا يجنون مقابل سخافاتهم والعمى الذي أصابهم.. في الساعة الحاسمة كان – الحاج موسى – مختليا بالبينة.. يلتقيان وجها لوجه.. كانت وصية بواب المقام ماثلة أمامها.. سوف تطبق النصيحة بحذافيرها.. عمروش – الكلب الغاطس في النذالة سيلاقي مصيره.. العملية متيسرة بلا تعقيد ولا عراقيل.. – تحت الزاورة – كما ولدتها أمها وكما ظهرت حواء لآدم.. خلعت الثوب تلو الآخر وتجردت من ورقة التين وهي ملتفة، ثم تداعت مستلقية على ظهرها، مغطاة من الرأس إلى القدمين تسترق أنفاسها الخفيفة وكلها إصغاء لما سيحدث.. ماذا يطلب منها هذا الذئب الشرس.. حدقت في الظلام تحت الغطاء وأصبحت كأنها مدفونة في قبر دامس.. الجسد في أمس الحاجة للاستنشاق.. وهي ساجدة كأنها تتوقع أشياء.. الباب مقفل والأصوات أصبحت نائية غير قادرة على النفاذ.. كان بإمكانها أن تطلق عقيرتها للصياح وأن تهرب.. يا للفضيحة هل سيمهلها – الحاج طاهر السروال - لتلبس ولو بعجالة.. لم يبق في داخلها شيء غير مضطرب.. تصورت العاقبة المرة لو حاد الشيخ عن السكة، ووسوس له الشيطان وزين في دماغه النيل منها.. ولكن لماذا هذا الخوف وقد استدعى انتباهها مثل هذا المشهد في الغرف الأخرى.. ألم تسمع ببركته ويده السليطة وقهره لأساطين الجن.. ولكن من قال ممسوسة، وما تراءى لها سوى بعض من الخيال.. هذه مجرد هواجس تقلقها برهة من الزمن ثم تمحي وتطير من فكرها.. أمسكت بطرف الإزار لترفعه قليلا دون أن يشعر بها الحاج.. مالت بعنقها واستوى الخد على الفراش، أطلقت نظرة فاحصة من تحت لترى وتكشف ما يحصل.. السروال الأخضر مكدس.. لم يمض على خلعه إلا وقت قصير.. والحاج غاطس في الجبة وقد بان لحمه من ثقبيها، وهو يرقص ويتمتم ويخطو جيئة وذهابا أمام الوليمة الفاخرة الشهية.. ثم هاج وماد وعربد :
مهراش.. طمطام.. بازخ.. شرنطخ.. أين أنتم يا قردة.. اقبضوا على – عمروش – قيدوه بالسلاسل واأتوني به حالا.. ثم تمدد واقترب شيئا فشيئا.. تسللت يده إلى تلك الطراوة والنعومة.. قولي معي :
لطيف فداركني بلطفك سرعة مجيب سريع والأمور تيسرت، فرددت معه البيت وهي في حالة ارتباك ثم غابت، ونسيت نفسها.. ولم تتفوه بكلمة واحدة بعد ذلك..
ظلت صريعة جاهلة ما حدث لها.. باب الحاج محكم القفل لا يخلع إلا بالمدفع.. دفته الغليظة من خشب العرعار، ومزلاجه من الحديد الصلب.. وعند فتحه يقعقع ويطلق صريرا لاحتكاكه بالاسمنت.. الوجوه الكالحة في انتظار النتيجة.. ترمق في الفراغ والحيرة لعلها تفهم شيئا من الطلاسم التي أعيت الأدمغة وعبثت بالمشاعر وغطت الحقائق.. عندما تقهقر الضغط عنها وأفاقت من غيبوبتها، تأملت بكل أجزائه.. حاولت أن تنهض وتحاملت على نفسها، كان الدوار يراودها ويطيح بها.. وفي عينيها المنهكتين ذهول وغيوم متلبدة.. أصبحت ذاكرتها قاصرة لا تستوعب الأحداث.. ولكن ثمة أوجاع وأشياء أخرى فهمتها ولاذت بالصمت، وانطوت على نفسها كالحلزونة الخائرة، المنهارة.. استردت أثوابها بصورة مبعثرة وزحفت نحو الباب الخشن المتوحش، وفي غمرة الضجيج كانت أمها في استقبالها بالأحضان، داعية لها بالبركة.. لم تصل بتفكيرها إلى حل اللغز.. و-الحاج موسى – اختفى بسرعة البرق.. ولا أثر له.. هرج ومرج في حضرة سيدي – فرج طاهر السروال – آن الأوان لجمع الشمل.. الظهيرة تكتسح المكان الملطخ بالرذيلة.. والشمس في بداية الانحدار تصب جحيمها بلا رحمة.. ما زال – مسرة – ينفخ من فوهة الكانون، وبراده رابض كالجمل مشرئب العنق، يستعر الغليان في جوفه فيدفع الغطاء المطقطق.. يتذوق ويصب ويوزع الكؤوس ذات اليمين والشمال وبين الرشفة والأخرى تخرج الكلمات مواصلة سرد القصة التي لا أمل في نهايتها، مستلذا بوصف عراكه مع الجن ومصارعته للشياطين والسعالى وانتصاراته العديدية... نسي أوجاع الشقيقة وانشطار رأسه الذي تعجز الفأس عن فلقه.. -عمارة – يكوع مستندا على كتف مرافقه يشيع بصره إلى السماء، مفعما بالأمل.. – عبدالمؤمن – بواب المقام يصد الباب، ويدفع الناس لفك الزحام، ويسجل الأسماء في دفتره.. العم مقطوف بن التيجاني تخضه الفدة فيتصكك قبالة القبة ويشخر كلما انقطع عنه الهواء.. – حسين الأعمى – يساق بعجالة خارج الباب، ينجذب جفناه من فوق العينين المطمورتين، ويبتعد به صاحبه عن الزحمة... الكل في اتجاه العربات.. والدواب تسرح قوائمها استعدادا لجر الحمولة... وكالعادة كانت عربة – حمه – في المقدمة. تمتد الظلال في طريق السبخة.. ومع الصرير وترنح العجلات ولهاث الحمار الأمهق كان صوت – مسرة – يتجاوب صداه فوق مساحات الملح حيث تبدو الجمال من بعيد متضائلة، غائصة في الأوحال، أما العربة الوسطى فكان حصانها جادا في سيره، يلامس منخراه آخر العربة المتقدمة.. ومن خلال ضحك الفتيات وتعاليقهن المثيرة الفاضحة كانت – سارة – فاغرة الفم.. في ضياع وذهول، وقد ساهمت الشمس في احمرار وجنتيها.. ولم تستوعب درسها لأن – التابعة – ستظل تترصدها وتعترض سبيلها في دنيا العمى، وسيبقى – عمروش - يتراءى لها في كل آونة، ويعصرها كالليمونة، وستلاحقها لعنة – الحاج موسى – وكلابه النذلة، الخاذلة، مهراش.. طمطام.. بازخ.. شرنطخ... كلاب الغدر والخيانة.. كلاب الدم..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.