تجدُ حكومة يوسف الشاهد نفسها وسط معادلة صعبة، فهي مُطوّقة من جهة بالتزاماتها المتمثلة في تخفيف الأعباء الاقتصادية والاجتماعية وترشيد الموارد المالية والتحكّم في كتلة أجور الوظيفة العموميّة التي تعدّ الأعلى في العالم، ومطالب الاتحاد العام التونسي للشغل بالزيادة في الأجور. وبين هذا وذلك ينتظرُ البلاد التونسيّة اليوم الخميس تحدٍّ قد يكون من أصعب التحدّيات الّتي عرفتها تونس في السنوات الأخيرة، في ظلّ شبح شلل مُختلف الإدارات والمؤسسات العموميّة ! هوّة عميقة بين المعروض والمطلوب يُطالب اتحاد بزيادة تُقدّر تكلفتها الاجمالية بحوالي 1.1 مليار دينار تونسي أي أكثر من ضعفي المبلغ الذي تخصصه الحكومة للزيادة في هذه السنة وهو 400 مليون دينار وهو المبلغ المرصود في ميزانية 2019 تحت باب النفقات الطارئة ، مؤكدة أن كل زيادة إضافية عن هذا المبلغ ستزيد من عجز الموازنة وتدفع البلاد نحو مزيد من الدين الخارجي. واقترحت حكومة الشاهد في آخر جلسة تفاوضية تمت امس الأربعاء زيادة في أجور الموظفين تتراوح بين 136 و180 دينار على قسطين، الأول من ديسمبر 2018 والثاني من جانفي 2020 في شكل اعتماد جبائي، إلا أن اتحاد الشغل رفض ذلك باعتبار أن الزيادة هي بعنوان 3 سنوات 2017 و2018 و2019، مشددا على أن أعوان الوظيفة العمومية تبعا للمقترحات الحكومية سيخسرون أشهرا دون زيادات. وطالب اتحاد الشغل بحصول أعوان الوظيفة العمومية على الزيادات ذاتها التي حصل عليها العاملون في الشركات الحكومية والمتراوحة بين 205 دنانير و270 دينارا وتُصرف في سنوات 2018 و2019 و2020. كتلة أجور القطاع العمومي: الأعلى في العالم تعدّ كتلة الأجور في تونس من أعلى المعدلات في العالم حيث بلغت في ميزانية سنة 2019، رقم 16.48 مليار دينار أي ما يعادل 14.1% من الناتج الإجمالي. ويُقدّر عدد الموظفين في تونس ب690 الف موظف في حين أن عدد سكانها لا يتجاوز 12 مليون نسمة، وفي المقابل فإن عدد الموظفين في بريطانيا مثلا يقدر ب300 ألف موظف، علما وأنها تضم 30 مليون نسمة. رواتب عالية ودقائق من العمل أكّدت دراسة أعدّتها الجمعية التونسية لمكافحة الفساد سنة 2015، أن معدل الوقت الذي يقضيه الموظف التونسي في العمل الفعلي لا يتجاوز 8 دقائق في اليوم وهو معدّل دون المستويات العالمية بكثير، فيما لم تتجاوز أيام العمل 105 أيّام من أصل 365. وكشفت الدراسة أنّ نسبة غياب الموظفين داخل الإدارة التونسية ارتفعت بنحو 60%، مشيرة إلى أنّ نسبة الموظفين الحاضرين بصفة قانونية في مراكز عملهم والمتغيبين ذهنيا بلغت 80%. وذهبت الإحصائيات حول أداء الموظف التونسي، إلى أنّ موظّفا من خمسة فقط يعمل والبقيّة يكتفون بالحضور الأمر الذي تسبّب في تعطيل مصالح المواطنين، وقد قدّرت الخسائر بحوالي مليون و86 ألف يوم عمل بسبب الغيابات ، كما أكد وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي في تصريح سابق أنّ “عشرات الآلاف من الموظفين لا يقومون بنشاط فعلي .” ويتكدس عشرات الموظفين في الوظائف العمومية دون تقديم أي فائدة تذكر ولا يملكون أي عمل ينجزونه طوال النهار ما دامت دائرتهم ليست خدمية لكنهم يتقاضون نفس أجور زملائهم ويكبدون الدولة خسائر بالمليارات دون تقديم إسداء أيّ خدمة . وبحسب دراسات مقدمة في الغرض فإن نسبة كبيرة من الموظفين تتقاضى أجورا دون أن تقدّم عملا فعليّا، إذ كشفت دراسة رسمية أعدّها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية أن حجم أجور موظفي القطاع العام قدرت خلال سنة 2017 13.7 مليار دينار تونسي، في حين أنه لم يتجاوز 7.68 مليار دينار في 2011، وبذلك تكون كتلة الأجور قد قاربت على الزيادة بنسبة مائة في المائة. مداخيل مضاعفة من القطاع الخاص لا ينحصر إشكال الوظيفة العمومية في ارتفاع كتلة الأجور فقط بل في ضعف مردودية القطاع العمومي وإنتاجيته فرغم الرواتب الخيالية التي يتقاضاها موظفو القطاع العمومي فإنّ مردوديّة هذا القطاع وإنتاجيته بقيت محدودة ولا تُقدّر بالمداخيل التي يُورفها القطاع الفلاحي مثلاً والذي بات يُمثل العمود الفقري للاقتصاد التونسي. وتتمثل مصادر العملة الصعبة ذات الأهمية للبلاد، في قطاع الفلاحة والصيد البحري وتصدير الزيوت والتمور والقوارص وغيرها من المنتوجات الفلاحية . ويُوفر قطاع القوارص للاقتصاد التونسي حسب رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بولاية نابل عماد الباي حوالي 26 مليون دينار من العملة الصعبة، مع أنّ التصدير لا تتعهد به سوى 14 محطة كلها في ولاية نابل. كما يعدّ زيت الزيتون خامس أكبر مصدر للعملة الصعبة في تونس حيث تمكنت من صدارة دول العالم كأكبر مصدر للأسواق العالمية بنحو 300 ألف طن تجني منها تونس سنويًا نحو 500 مليون دينار تونسي. حلقة مفرغة ووضعٌ صعب يُطالب اتحاد الشغل بالزيادة في الأجور، فتستجيب الحكومة لكسب السلم الاجتماعية، وتلتجئ للقروض لتمويل الزيادات، ثم تتكدّس الديون ويغضبُ الاتحاد، ليحشد الشارع متهما الحكومة بارتهان الدولة للخارج، حلقة مُفرغة تدور وسطها الدولة التونسية منذ ثورة جانفي 2011،دون جدوى. ووسط كلّ ذلك تُواجه تونس، أزمة اقتصادية ومالية حادة، مع تجاوز معدل التضخم حاجز 7%، وارتفاعًا قياسيًا في الاستدانة من الخارج. وبحسب المعطيات التي وردت في تقرير دائرة المحاسبات الأخير، كان حجم الدين العمومي سنة 2011 في حدود 28 الف و779 مليون دينار، وبلغ سنة 2016 55 ألفا و921 مليون دينار، ووصل سنة 2017 الى ما يقارب 68 الف و37 مليون دينار. وقدر حجم الدين العمومي موفى سنة 2018 بنحو 76 ألفا و100 مليون دينار. وأكّد الخبير الاقتصادي محمد الصادق جبنون أن الدين العمومي وصل إلى مستويات مقلقة بالنسبة لدولة نامية مثل تونس وأن الأصل في الشيء بالنسبة للدول النامية أن لا يتجاوز الدين العمومي 60 % من الناتج الداخلي الخام في حين أن تونس وصلت 70% وإذا ما تم احتساب الديون الخاصة والمؤسسات العموميّة تبلغ النسبة ال 90%. وأضاف جبنون في تصريح “للشاهد” أن المقلق أكثر من ذلك هو أن الدين الأجنبي يمثّل 148% من الصادرات التونسية سنة 2017 بمعنى أن مداخيل الصادرات والسياحة يستهلكها العجز التجاري والدين لتبقى دائما الميزانية في حاجة إلى تمويلات. وتُشير حكومة الشاهد إلى أنها لا تقدر على الإيفاء بتعهدات جديدة لزيادة الأجور في ظل الوضع الاقتصادي الصعب. كما أنها تتعرض لضغوط من صندوق النقد الدولي الذي يحثها على تجميد الأجور في إطار إصلاحات للقطاع العام تهدف إلى الحدّ من عجز الميزانية. ويسود في الوسط الوطني تخوّف من انفجار الأوضاع الاجتماعية في ظل حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي وما يعمق من المخاوف توتّر العلاقة الحكومة والاتّحاد الذي بات يملك مفتاح تهدئة الشارع أو تحريكه. ويستعدّ اتحاد الشغل لتنفيذ إضراب عام في قطاع الوظيفة العمومية اليوم الخميس 17 جانفي، وسط توقعات بأن يُكبّد الدولة خسائر تتراوح بين250 و300 مليون دينار. وكانت المنظمة النقابية قد نفّذت في 22 نوفمبر الماضي إضراباً عاماً شمل كافة العاملين بالوزارات والإدارات المركزية والجهوية والمحلية، والمؤسسات الخاضعة لأحكام القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية، الذين يبلغ عددهم 690.091 موظفا.