بسم الله الرحمان الرحيم أيها المواطنون، أيتها المواطنات، نحتفل اليوم مع سائر شعوب العالم بعيد الشغل. وهي مناسبة نجدد فيها التعبير عن إيماننا الراسخ بقيم العمل والاجتهاد التي أقمنا عليها مشروعنا الحضاري، واعتمدناها أساسا لتحقيق التنمية العادلة والشاملة بين سائر الفئات والجهات. وإذ أشكر السيد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل على ما تضمنته كلمته من نبل المعاني، فإني أتوجّه بهذه المناسبة بالتحيّة الحارة إلى كل الشغالين بالفكر والساعد، في جميع مواقع العمل والإنتاج، تقديرا لتفانيهم في أداء واجبهم وإكبارا لإسهامهم في دفع مسيرة بلادنا على درب الرقي والرفاه. كما أحيّي كل المؤسسات واللجان الاستشارية التي تميّزت بجهودها الحثيثة في مجالات تحسين ظروف العمل، وتطوير الإنتاجية، وترسيخ الحوار الاجتماعي، ودعم العلاقات المهنية. وهو ما من شأنه أن يكسب اقتصادنا الوطني المناعة التي تمكنه من رفع التحديات وتذليل الصعوبات، لاسيما في هذا الظرف الدقيق الذي يمرّ به الاقتصاد العالمي. كما أتوجّه بخالص التهاني إلى الشغالين وأصحاب المؤسسات الذين سنشملهم بعد حين بالتكريم والتوسيم، تقديرا منا لكل من يجدّ ويكدّ في أداء واجبه المهني، ويتميّز بالجودة والمبادرة، والإضافة. وأجدد بهذه المناسبة الإشادة بالدور الذي يضطلع به الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى جانب الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، من أجل ترسيخ الوئام الاجتماعي، وتكريس الحوار والتعاون والتضامن بين كل الأطراف، والالتزام بمصلحة الوطن العليا. أيها المواطنون، أيتها المواطنات، لقد شهدت سنة 2008 جولة سابعة من المفاوضات الاجتماعية في القطاعين العام والخاص شكّلت فرصة متجددة لتعزيز الحوار الاجتماعي الذي اعتمدناه خيارا ثابتا للنهوض بقطاع التشغيل، وإرساء علاقات مهنية سليمة ومتطوّرة، قائمة على التفاهم والوفاق والتكامل. وإذ نعبّر عن ارتياحنا للنتائج الإيجابية التي أفضت إليها المفاوضات في القطاع الخاص وفي الوظيفة العمومية، فإننا نأمل أن تستكمل المفاوضات في المنشآت والمؤسسات العمومية في أقرب الآجال. ونحن نكبر في هذا النطاق المسؤولية التي تحلت بها مختلف الأطراف، وإدراكهم العميق لخصوصيات المرحلة، وما تطرحه على بلادنا من تحديات جسيمة ومتسارعة في شتى الميادين. وقد تمّ سنة 2008، صرف القسط الأول من البرنامج الثلاثي للزيادات في الأجور التي أفضت إليها هذه الجولة من المفاوضات الاجتماعية في القطاعين العام والخاص، مما مكّن العمال من الانتفاع بزيادات سنوية منتظمة في الأجور تواصلت منذ التغيير إلى اليوم بدون انقطاع، وجعل بلادنا بفضل هذه السياسة الاجتماعية العادلة والثابتة، مثالا فريدا في العالم، لاسيما في هذا الظرف الدولي الذي تنتابه الأزمة المالية والاقتصادية. كما أذنا خلال سنة 2008 بزيادات جديدة في الأجور الدنيا ارتقت بالأجر الأدنى المضمون لمختلف المهن بحوالي 140% منذ التغيير، ورفعت الأجر الأدنى الفلاحي المضمون في الفترة نفسها بنسبة تقارب 154%، إضافة إلى تحسين ظروف العمل داخل المؤسسات وفتح المزيد من آفاق الترقية المهنية والاجتماعية أمام العاملين في سائر القطاعات. ولكي نشمل بهذه الزيادات في الأجور، أصناف الأجراء كافة، حرصنا على أن نرفع في أجور العمال غير الخاضعين لاتفاقيات قطاعية مشتركة، أو لأنظمة أساسية خاصة. وهي إجراءات تكرّس سياستنا الاجتماعية العادلة والثابتة لفائدة العمال مما بوّأ تونس مرتبة بارزة ضمن الدول الثلاثين الأولى على الصعيد العالمي والمرتبة الأولى على الصعيد العربي والإفريقي، من حيث مستوى الأجور الدنيا المسجلة سنة 2007، وذلك وفق تصنيف مكتب العمل الدولي في المجال خلال السنة الجارية. وترسيخا لهذا الاختيار، ودعما للطاقة الشرائية للأجراء من ذوي الدخل المحدود، نعلن قرارنا بالزيادة في الأجر الأدنى المضمون في القطاعين الفلاحي وغير الفلاحي. وستتولى الحكومة ضبط مقدار هذه الزيادات بعد التشاور مع المنظمات المهنية المعنية. ونرجو أن تكون هذه الزيادات بمختلف أصنافها، خير حافز إلى مضاعفة الجهد وتحسين الإنتاجية، وتعزيز قدرة مؤسساتنا على مواجهة المنافسة الخارجية وكسب رهان التصدير، والمحافظة على طاقاتها التشغيلية. وأجدد بهذه المناسبة دعوتي إلى كل العمال وأصحاب المؤسسات، لأن يثابروا على تطوير أدائهم، وتحسين إنتاجيتهم، والرفع من كفاءاتهم البشرية إلى أرقى المستويات، حتى نستطيع مجاراة المنافسة المحتدة اليوم بين الأمم في مجال صناعة الذكاء والمهارات، ونكسب منتوجنا الوطني القيمة التي يستحقها على مستوى الجودة والكلفة والتسويق. لذلك أذنا بتنظيم حوار وطني حول الإنتاجية خلال هذه السنة تشارك فيه مختلف الأطراف المعنية، وذلك حتى نتحصل على مقترحات عملية تساعدنا على بلورة السبل الكفيلة بتحسين الإنتاجية والرفع من نسق الإنتاج وتطوير الأداء، بما يدعم تنافسية اقتصادنا ويمكنه من المحافظة على مواطن الشغل وخلق المزيد من فرص العمل. أيها المواطنون، أيتها المواطنات، إننا نعيش اليوم مع مختلف دول العالم، مرحلة دقيقة من التحديات المالية والاقتصادية التي انعكست سلبا على بلادنا بما أثر في نسق النموّ عامة وفي خفض معدل المبادلات والمعاملات لدى المؤسسات خاصة لاسيما المصدرة منها، بحكم ارتباطها بالأسواق الخارجية. وقد كنا بادرنا في هذا المجال باتخاذ مجموعة من الإجراءات الوقائية، لفائدة المؤسسات الاقتصادية التي تشهد تراجعا في نشاطها، وذلك حفاظا على مواطن الشغل بها، ومساعدتها على مواصلة عملها في نطاق الاستقرار والاطمئنان. كما عززت الدولة إحاطتها بالمؤسسات المعنية، بأن تكفلت بجزء من الأعباء الاجتماعية والمالية التي تتحملها المؤسسة في صورة لجوئها إلى التخفيض في ساعات العمل أو إلى إحالة عمالها على البطالة الفنية. وشمل هذا البرنامج إجراءات ظرفية ذات طابع مالي، تتعلق بتأمين الصادرات وقروض إعادة الجدولة، والتقليص من نسبة مخاطر الصرف ومن آجال استرجاع فائض الأداء على القيمة المضافة، علاوة على الإجراءات الأخرى التي اتخذناها لفائدة التكوين وتحسين مناخ المنافسة ودعم عمليات الترويج. وأقررنا أيضا برنامجا خاصا ذا طابع هيكلي لمواجهة تسارع التطورات على الصعيد العالمي ودخول الاقتصاديات المصنعة في مرحلة ركود، وذلك بأن عملنا على تأمين الاستمرارية والحيوية لاقتصادنا الوطني، والمحافظة على الأولويات والأهداف التي حددناها له للمرحلة القادمة، والاستعداد من الآن للاستفادة من خروج الاقتصاد العالمي من أزمته واستعادة سالف نشاطه. ويشمل هذا البرنامج خاصة، تحسين إجراءات التجارة الخارجية وتبسيطها، واعتماد المواصفات العالمية بشأن سلامة المنتوجات، وتشجيع الإقبال على المهن الواعدة والمجددة، وتأهيل قطاع الخدمات والنظر في تعديل منظومة التمويل ومناخ الأعمال، بما يزيد في جلب الاستثمار الخارجي والتشجيع على التصدير. ونحن نعمل من ناحية أخرى على إعادة هيكلة برامج التشغيل والإدماج، والإحاطة المكثفة بمن طالت بهم فترة البطالة، ومنح صلاحيات أوسع للجهات في وضع هذه البرامج وتنفيذها. ويبقى موضوع تشغيل الشباب وحاملي الشهادات العليا منهم خاصة، أولوية دائمة بالنسبة إلينا، ورهانا وطنيا تتحمل مسؤوليته سائر الأطراف المعنية. وقد قامت الدولة في هذا المجال، باستيعاب أفواج من خريجي الجامعات، وأقرّت مجموعة من الإجراءات لحفز المؤسسات إلى مزيد استيعاب عدد منهم، علاوة على تكليف الصندوق الوطني للتشغيل 21-21 بتحمل نسبة من الأجور المدفوعة لفائدة أصحاب الشهادات العليا، ووضع برنامج تكوين خاص بهم في مجال التصرف والتسيير، يساعدهم على بعث المؤسسات واستحداث مواطن الرزق. أيّها المواطنون، أيّتها المواطنات، لقد أولينا قطاع الضمان الاجتماعي عناية فائقة مكنتنا من توسيع المنافع والارتقاء سنة 2008 بنسبة التغطية الفعلية إلى 93%. وحرصنا على أن يحافظ هذا القطاع على توازناته المالية في ظل ما يشهده المجتمع التونسي من تحولات ديمغرافية وتطورات إيجابية على مستوى الصحّة، وارتفاع مؤمل الحياة. وإذ يمثل النظام الجديد للتأمين على المرض تحولا نوعيا في منظومة التغطية الاجتماعية والصحية، فإنّنا نؤكد ضرورة تظافر جهود مختلف الأطراف المعنية، من أجل الإعداد المحكم لإصلاح أنظمة التقاعد، حتى نحافظ على ديمومتها، ونؤمّن لها المنافع التي تسديها لمختلف الشرائح الاجتماعية. أيّها المواطنون، أيّتها المواطنات، لقد أكّدنا دائما أن مواردنا البشرية هي ثروة تونس التي لا تنضب. لذلك أوليناها كل العناية والرعاية لاسيما في القطاعات الاجتماعية، والصحة والسلامة المهنية، حيث أحدثنا الهياكل المختصة، ووفرنا الحوافز والتشجيعات، وأنجزنا البحوث والدراسات، وعملنا على ترسيخ ثقافة الوقاية لدى كل أطراف الإنتاج. وقد حققنا نتائج مشجعة في هذا الشأن، تجلّت بالخصوص في تراجع نسبة حوادث الشغل من 37 حادثا بين كل ألف عامل سنة 1997، إلى 30 حادثا بين كل ألف عامل سنة 2008، وفي ارتفاع عدد المؤسسات المغطاة بمجامع طب الشغل والمصالح الطبية الخاصة، من 2.365 مؤسسة سنة 1997، إلى حوالي 11.500 مؤسسة سنة 2008. ولكي نتمكن من تنفيذ البرنامج الوطني للتصرف في الأخطار المهنية للفترة التي تمتد إلى سنة 2011، ندعو المؤسسات الاقتصادية إلى مزيد الانخراط بمجامع طب الشغل وتغطية اليد العاملة بخدمات هذا القطاع لتبلغ مع نهاية المخطط الحادي عشر للتنمية نسبة 60% من مجموع اليد العاملة الخاضعة لأحكام مجلة الشغل. وتشجيعا منا للمؤسسات الصغرى على النهوض بالسلامة المهنية، نأذن بتمكينها من قروض لهذا الغرض بسقف لا يتجاوز خمسة آلاف دينار وبشروط ميسّرة، مع منحة تساوي 50% من قيمة القرض. كما نأذن بمراجعة آلية القروض والمنح التي يسندها الصندوق الوطني للتأمين على المرض لفائدة المؤسسات، وذلك بتيسير شروط الحصول عليها والتخفيض في نسبة الفائدة، حفزا لها إلى إنجاز المزيد من المشاريع في مجال الصحة والسلامة المهنية. ونعلن في هذا السياق، عن إحداث «جائزة للصحة والسلامة المهنية» تسند سنويا إلى المؤسسات التي تتميّز في هذا الميدان. أيّها المواطنون، أيّتها المواطنات، إنّ سبيلنا إلى تأمين المناعة لوطننا والرفاه لشعبنا، يمرّ حتما عبر مزيد العمل والبذل، ومضاعفة الجهد والاجتهاد، والمثابرة على ترسيخ السلم الاجتماعية ودعم تقاليد الحوار والوفاق. ونحن نعتمد في ذلك على إمكانياتنا الذاتية ومواردنا البشرية، وعلى ما يحدو منظماتنا المهنية ومؤسساتنا الاقتصادية وعمالنا بالفكر والساعد، من روح وطنية عالية، وشعور نبيل بالمسؤولية، ووعي عميق بدقة المرحلة، وعزم قوي على رفع التحديات وكسب الرهانات، حتى نؤمن لمسيرتنا التنموية الشاملة كل أسباب النجاح، ونواصل التقدّم إلى الأمام بإصرار واقتدار، ثقة بالحاضر، وتفاؤلا بالمستقبل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.