يؤدي الاستاذ راشد الغنوشي منذ بداية هذا الأسبوع زيارة الى الولاياتالمتحدةالأمريكية بدعوة من بعض المراكز البحثيّة والمهتمة بقضايا السلام والتنمية والديمقراطيّة في العالم. وقد ألقى الغنوشي أوّل أمس الاثنين محاضرة في المعهد الامريكي للسلام حملت عنوان: "الشرق الاوسط في ازمة: الاسلام والديمقراطية والتطرف" قدّم من خلالها رؤية لما يجري في المنطقة من صراعات ومسارات مختلفة لتجارب ثورات الربيع العربي والانتقال الديمقراطي وما يهزّ عددا من الدول من تنامي لظاهرة الارهاب. ونظرا لاهمية المحاضرة في ما يلي نصّها كاملا: بسم الله الرحمان الرحيم السيدات والسادة أودّ في البداية ان اعبر عن سعادتي بالقاء محاضرة على منبر هذه المؤسسة العلمية العريقة، حول الوضع في الشرق الاوسط، الذي لا أراه شخصيا في ازمة بل في مفترق طرق بين المضيّ قدما في الديمقراطية والتنمية والتقدم، او انتشار الفوضى والارهاب والحروب الأهلية والطائفية. قبل سنوات كان العالم يتطلع بإعجاب بل انبهار، للأمواج البشرية المتدفقة الى الميادين والساحات في تونس وطرابلس والقاهرة وصنعاء، مطالبة بالحرية والكرامة ورحيل الأنظمة المستبدة، القمعية. ما كان يسمى "الاستثناء العربي" انهار امام إرادة الشباب الثائر، ولم يعد متاحا لأي طرف ان يصف العرب والمسلمين بانهم غير مؤهلين للديمقراطية، او أن ثقافتهم السياسية متأصلة في فلسفة "الاستبداد الشرقي" وان دعم الأنظمة القمعية من طرف العالم الحر خيار حتمي لتجنب وقوع السلطة في أيدي الاسلاميين اعداء الحضارة الغربية. سقطت هذه المقولات واصبح الربيع العربي، مصدر الهام لشعوب العالم، قبل ان تتغير المعطيات وتنجح قوى الجذب والردة في إغراق الثورة السورية في الارهاب، والخلافات والانقسامات، وتتطور الأمور في ليبيا نحو الفوضى وتعود مصر الى حكم العسكر. السؤال هنا هو: لماذا تغيرت خارطة الشرق الاوسط بهذه السرعة، من مخاض ديمقراطي واعد الى بؤر توتر، وفتن وصراعات؟ هل السبب هو صعود الاسلاميين للسلطة وفشلهم في إدارة شؤون الحكم، وبناء أنظمة ديمقراطية مستقرة؟ سأحاول ايتها السيدات ايها السادة، تقديم قراءة يمكن اعتبارها مدخلا او وجهة نظر لفهم ما يحدث في تلك المنطقة البعيدة عنكم جغرافيا، وذات الارتباط الوثيق بأغلب الملفات الجيوستراتيجية الساخنة، التي تشد اهتمامكم واهتمام حكوماتكم. قراءتي نابعة في الحقيقة من تجربة تونس، الشمعة الوحيدة التي بقيت مضيئة في الربيع العربي. تونس نجحت في إنجاز دستور حداثي ينص على حرية الضمير، ويضمن حقوق المرأة والأقليات، وهو ثمرة عمل مشترك بين العلمانيين والاسلاميين. كما نجحت في تجاوز الأزمة السياسية التي مرت بها في السنة الماضية، بفضل حوار وطني توج بالتوافق على حكومة مستقلة تعمل اليوم على ضمان المناخ الملائم لتنظيم الانتخابات بعد أسابيع قليلة. تونس أيضاً تخوض حربا موفقة ضد الارهاب بدأتها حكومة الترويكا برئاسة حركة النهضة، التي صنفت يوم 27 اوت 2013 انصار الشريعة تنظيما إرهابيا، وألقت القبض على العشرات من قياداته، وفككت خلاياه واحبطت الكثير من عملياته رغم الضربات الجبانة التي سددها لقوات جيشنا وامننا وسياسيينا. السؤال الذي يجب أن نسأله هو: لماذا نجحت تونس؟ الاجابة التي أراها بديهية هي لان الديمقراطية ممكنة التحقيق في الشرق الاوسط متى توفرت شروط تحققها. لا وجود "لاستثناء عربي"، ولا وجود لتعارض بين الاسلام والديمقراطية. الاستبداد ليس قدرا حتميا على المنطقة. كيف نجحت تونس اذن؟ ولماذا فشل الآخرون حتى الآن ؟ نجاح تونس لم يكن صدفة وإنما بفضل عوامل عديدة لم تتوفر بالقدر المناسب في تجارب آخرى للأسف. - أول العوامل هو رفض الهيمنة والإستفراد بالسلطة: إذ أن حركة النهضة التي حازت على الاغلبية في انتخابات المجلس الوطني التاسيسي سنة 2011 ، رفضت الهيمنة على الحكم، ودعونا الى حكومة وحدة وطنية منذ إنتخابات 2011 واستجاب لدعوتنا حزبان علمانيان هما التكتل والمؤتمر. النهضة كانت حريصة منذ البداية على إقامة نظام سياسي يتعايش فيه العلمانيون والاسلاميون، وهذا الخيار لم يكن سهلا في كثير من الأحيان، ولكن حكمة النهضة والتنازلات التي قدمتها كانت دائماً قوة الدفع الرئيسية للخروج من الأزمات، وتسريع كتابة الدستور. التعايش مع العلمانيين، كان نتيجة مسار فكري اجتهادي كانت فيه حركتنا اول حركة إسلامية تتبنى الديمقراطية منذ 1981، وتعلن بوضوح انها حزب مدني، يؤمن بالمواطنة، والقيم المدنية. وهو خيار لم نغيره حتى بعد الهجمة الوحشية التي تعرضنا لها في التسعينات من طرف نظام بن علي، النهضة بقيت حركة سلمية تناضل ضد الدكتاتورية بالوسائل الديمقراطية وترفض العنف والتطرف. إذا رفض التفرد بالحكم، والرهان على التعايش العلماني الاسلامي، عاملان مهمان لنجاح التجربة التونسية. - العامل التالي من عوامل النجاح هو تبنينا في النهضة منهج الحكم التوافقي واعتقادنا بأنه في المراحل الإنتقالية لا يمكن الحكم بخمسين في المائة زائد واحد لتوفير استقرار للنظام السياسي, ولكن يجب تحقيق توافق واسع يمثل أغلب تيارات المجتمع الأغلبية والأقلية. لذا أردنا دستورا لا يمثل النهضة وحدها ولكن يمثل الأغلبية الواسعة للشعب التونسي. وقد تمكن مبدأ الوفاق من إنقاذ تونس وثورتها من الأزمات الكبرى التي واجهتها عن طريق حوار وطني جمع كل الأطياف السياسية ممثلة في 22 حزبا ولم يقصي أحدا. وقد قاد نجاح الحوار الوطني إلى دستور توافقي حديث صوت عليه أكثر من 94% من المجلس التأسيسي. كما قاد الحوار الوطني الى النجاح في التوافق على استكمال المسار الديمقراطي بالإتفاق على هيئة مستقلة للإنتخابات وتاريخ للإنتخابات. وقد كانت العديد من هذه التوافقات ثمرة تضحيات قدمتها حركة النهضة ذات الأغلبية وذلك للمحافظة على وحدة البلاد وعلى استمرار مسار الإنتقال الديمقراطي . في البداية تخلينا على وزارات السيادة، ثم غادرنا الحكومة. ولم يكن قرارا بسيطا، ولكن النهضة اتخذته بأغلبية ساحقة لانها حزب مسؤول، يقدم مصلحة الوطن على مصلحته، ويدرك ان ضمان الحرية لكل التونسيين اكثر أهمية من التشبث بسلطة تقسم البلاد وتفرقها. - العامل الرابع في تقديري هو وقوفنا بشدة ضد قانون العزل السياسي، ورفضنا اقصاء كوادر حزب التجمع المنحل، رغم المخاطر الكامنة في السماح لهم بالعمل السياسي. لقد شاهدنا آثار الإقصاء والاجتثاث في تجارب عديدة آخرها ليبيا، لذلك خيرنا ان نحتكم للشعب، وان لا نعامل من قهرنا وسجننا وعذبنا وأشاع الفساد والاستبداد، لمدة عقود طويلة كما عامل معارضيه. -العامل الخامس يرتبط بطبيعة المؤسسة العسكرية التونسية وهي مؤسسة جمهورية غير انقلابية، انحازت للشعب خلال الثورة، والتزمت بحماية مسار الانتقال الديمقراطي، وهو ما نلمسه أيضاً في المؤسسة الأمنية التي استعادت عافيتها، ونجاعتها. نجاح الثورة التونسية اذن ايتها السيدات والسادة، ليس صدفة، بل هو ثمرة مسار توافقي قادته حركة النهضة بالتعاون مع شركائنا في الاحزاب والمنظمات على غرار اتحاد الشغل واتحاد الأعراف. المشكلة ان هذا النجاح لا ينفي وجود مخاطر جدية تهدده في ظل اصرار جهات عديدة على إجهاض كل تجارب الربيع العربي، للبرهنة على ان الشرق الاوسط غير مؤهل للديمقراطية، وان المكان الوحيد المناسب للإسلاميين هو السجن وزنازين التعذيب او المنفى . سيقولون لكم هنا في أمريكا ان الخيار الأفضل للمنطقة هو الدكتاتورية للحفاظ على الامن. كما يقولون لشعوبنا أنها لن تنعم بالامن والرفاه والتقدم الا في ظل أنظمة مستبدة. ونحن نقول أن هذا الخيار ليس خيارا جديدا فقد جرب في الماضي ولكن دعم الأنظمة الدكتاتورية في الشرق الاوسط قاد الى الويلات على العالم وعلى المنطقة وأدى الى ظهور الإرهاب وانتشاره في المنطقة والعالم وقاد أيضا الى أن تنفجر الثورات. ونقول أيضاً ان الخلط بين الاسلام والعنف سيمنح المتطرفين مجالا أوسع لاستقطاب قطاعات واسعة من الشباب، وان شعور الشباب العربي بزيف الالتزام بدعم الديمقراطية سيصيبه بالإحباط والمزيد من النقمة على الذات والمجتمع والآخر، و ان غياب السلام العادل والشامل في الشرق الاوسط سيقود الى المزيد من بؤر التوتر ويعمق مشاعر الحقد والكراهية. أعود الى سؤال البداية : هل هي ازمة ام مفترق طرق؟ التجربة التونسية ايتها السيدات والسادة تؤكد انه بإمكانكم الثقة في أن الديمقراطية ستأخذ طريقها في هذه المنطقة من العالم شديدة التعقيد وان ليس في جينات شعوب هذه المنطقة ما يتناقض مع الحريات الديمقراطية ولا في الإسلام كذلك ، وان الواجب يقتضي من أصدقاء الحرية والديمقراطية في العالم الحر، مساعدة المنطقة على مواصلة التقدم نحو الحرية والحداثة. نحن نثمن ما ورد في خطاب الرئيس باراك أوباما من تنويه بتجربة التعايش المبدع بين الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين المعتدلين في تونس. كما نثمن دعوة الرئيس أوباما لعدم الخلط بين الإسلام والإرهاب لأن المستفيد من الخلط بين الاسلام والارهاب هم الإرهابيون الذين يحاربون الديمقراطية ويعتبرونها كفرا، والمستفيد الآخر من هذا الخلط هم المستبدون الذين يعرفون ان وجود دول ديمقراطية تضمن الحرية والعدالة وسلطة القانون لا تسمح لهم بإقامة أنظمة فاسدة تنهب الثروات، وتقمع المعارضين. اننا ندين بقوة الإرهاب في كل صوره ولكن من المفيد والضروري ان نؤكد ان الحل الأمني العسكري بمفرده لا يكفي بل ربما على المدى القريب والبعيد سيزيد في تعقيد مشكلة الارهاب. يجب ألا يقتصر مواجهة الإرهاب على المستوى الأمني بل يجب أن يشمل ذلك أيضا المستوى السياسي وذلك بدعم الديمقراطية وسلطة الشعوب. كذلك يجب مواجهة الإرهاب على المستوى الفكري والديني بتبيين أن هذا الفهم للدين هو فهم خاطئ وأن الإسلام لا علاقة له بالإرهاب بل هو سلام ورحمة للعالمين. كما يجب ألا نغفل الجانب الإقتصادي والإجتماعي عند مواجهة هذه الآفة. في تونس هزمنا الاستبداد ونأمل أننا في طريقنا لهزم الارهاب حين نثبت انه لا تعارض بين الاسلام والديمقراطية، وحين نبني إقتصادا ناميا يوفر لجميع المواطنين العيش الكريم. أعتقد ان "الاسلام الديمقراطي" هو صمام الأمان والبديل عن كل صور الارهاب، وهو الذي سيمنع قوى الاستبداد من مقايضة الامن بالحرية. بهذه الرؤية نذهب في تونس الى مرحلة جديدة من مسارنا الديمقراطي، سنحتكم فيها لشعبنا للمرة الثانية بعد الثورة في انتخابات حرصنا على ان تكون مناسبة لتدعيم وحدة المجتمع، وبناء شراكة قوية في الحكم. وقد أقدمنا في حركة النهضة بصورة تلقائية على تضحية اخرى لضمان نجاح المرحلة القادمة بامتناعنا على الترشح للانتخابات الرئاسية، ودعوتنا لتشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع مختلف الأطراف لان تونس في تقديرنا لا يمكن ان تدار بأغلبية الخمسين زائد واحد، في السنوات القادمة. وانطلاقا من قراءة عميقة لأزمات المنطقة ومن أسبابها تراجع مؤشرات التنمية وارتفاع نسب بطالة الشباب، فقد اخترنا ان يكون شعار النهضة الانتخابي " نحو اقتصاد واعد وبلد آمن". وادراكا للمخاطر الناجمة عن تأخر الحلول التنموية ، بسبب الوضع الاقتصادي الهش في البلاد، فاني أدعو أصدقاء تونس الى تقديم الدعم المالي الضروري للحكومة الحالية وللحكومة القادمة، وعدم انتظار الاستثمارات التي تحتاج وقتا طويلا وظروفا خاصة لتدخل حيز التنفيذ. ايتها السيدات ايها السادة لقد حرصت على القدوم لواشنطن رغم انشغال حزبي بالتحضير للانتخابات، لاخاطب هذه النخب النيرة، في لحظة حاسمة تقتضي ان نتوحد فيها جميعا للدفاع عن الحرية والديمقراطية ومنع عودة الاستبداد وهزم الارهاب، والقضاء على أسباب ظهوره وانتشاره. فالتجربة التونسية التي أصبحت نموذجا للتكامل بين الاسلام والديمقراطية، تؤكد دون شك ان الحل في الشرق الاوسط لضمان منطقة مستقرة هو دعم الحرية، والديمقراطية وضمان الحق في التنمية والتقدم، وان الانتصار على الارهاب مسؤولية جماعية تتقاسمها شعوب المنطقة مع أصدقاء الديمقراطية في العالم. الديمقراطية والتنمية والإسلام المعتدل خيار ممكن في الشرق الاوسط، وهي سلاح ناجع، ضد الارهاب وجماعات التكفير والعنف. هذه هي الرسالة التي حملتها اليكم من تونس، التي اختار شعبها طريق الديمقراطية والحرية، بتوافق بين نخبه العلمانية ونخبه الاسلامية وشعبه الذي أشعل ثورات الربيع العربي وعرف كيف يحافظ على ثورته متوهجة والحمد لله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.