الغريب من لا يوسّع له إذا قدم. هكذا كتب أبو حيان التوحيدي منذ القرن الرابع للهجرة. كانت هذه الغربة كما عزلة المعرّي منهلا يروي إبداع الرجلين ويعمق بالمعاناة نظرتهما للاشياء والقضايا. والغريب عند ألبار كامو A. Camus هو ذلك الشخص الذي يقتل عربيا un arabe لانه وجد مسدسا على مقربة منه ولأن الطقس حار جدا ولأنه قلق ولم يجد ما يفعل. إذن فالغربة غربتان واحدة تولّد التأمل والابداع وثانية تنزف الفضيحة والبدعة. وللغربة مع ما يحدث في العراق وفلسطين علائق متوترة وقضايا منشورة لدى محكمة التاريخ. من ذلك غربة الرجل الابيض الذي تملّكته حمى عبور الاطلسي، يحدوه أمل التخلص من الاضطهاد الديني الكاثوليكي للبروتستانت ويغريه ما تواتر من أخبار عن جبال الذهب التي يحويها قفر العالم الجديد، ليصطدم بوجود أقوام محلية سعيدة بأرضها. تعبد جبالها وأنهارها، وتطلق على ولدانها أسماء غيومها وطيورها. وعند هذا المبلغ تحولت غربة صاحبنا الى غربتين غربة النفي منطلقا وغربة الرفض فضولا. فما كان منه إلا أن مشى الى جماجم «الجلود الحمر» الذين اكتنفهم صمت التاريخ قربانا للتقدم البشري. وفي الاتجاه الآخر من دائرة التفاف الارض حول نفسها نشأ توأم آخر للغريب. إنه يهودي فيانا أو البندقية ذلك الصيرفيّ الذي كان يضارب بأقوات العامة ليجني ربحا وكرها بلغ الحد الذي حولته الحرب الى محرقة والدعاية الى ذنب أوروبي مزمن. افتعل الغريب الثاني تعلّة القفر من جديد وأدخل شعب كنعان في حيز العدم المكتوب. وتكررت نفس المفاجأة عندما تبرّأ منه البشر والحجر، فمشى هو أيضا على جثث الآخرين وجعل من إشلائهم جدارا يحمي به «واحة الديمقراطية». بعد مائتي عام من الغربة أصبح الغريب «المسيحاني» الصهيوني، لا يرى في العالم غير ظلاله وفي ما عداه من البشر أشباحا وأوراحا شريرة. واستفلحت أعراض عزلته لتتخذ علامات عديدة كسياسة الحياد. وإقامة الدرع النووي. وجباية الفولاذ والحرب الاستباقية... وازداد خيلاء وزهوا عندما تحقق من ذوبان غريمه القطبي الاحمر. منذ مائتي عام والغريب يحلم بالعثور على تربة عريقة تأوي هشاشة تاريخه، حتى جاء اليوم الذي حزم فيه حقائب امتلاك «أم الحضارات» متوّهما قطف ورود الانفتاح وبلسم البُرء الاخير. لكنه لم يلق من الذين عدّهم أشباحا سوى شبح الموت الذي يترقبه في كل الازقة والثنايا. وهو في «أعلى درجات الوحدة» استباح الغريب كل شيء، وأسقط جميع أوراق الحياء، واستحال الدمار الاعمى لغته المفضلة للتعرف على ما هو ليس هو، فلم يوسّع له كما كان يريد، لم تمطر السماء أرزا ولا وردا، بل أرعدت طيرا أبابيل... وفضيحة. لم يجد الغريب موطنا لائقا بورطته الرافدية غير سجن «أبو غريب»، فقد حدّثه هاتف توحّده بأن يكشف عن حقيقة تحرّره من غربته القاتلة بطرق مبتكرة، وإن أدى الامر بعد ذلك الى الاعتذار أو لزم التماس نظرة اعتراف من الضحية... فقد يكفي أن يفتح الغريب مكتب علاقات عامة مع العرب ليتجاوز صدمة أبو غريب... ولكن بأي ثمن؟...