لم أكن ضدّ العولمة، وليس ذلك حبا فيها بالضرورة ولكن لأنها أمر واقع! ولأن الأمر كذلك فلا مجال للهرب منه أو النأي عنه. ثم إن هذا التقدّم العلمي الرهيب خصوصا في مجالات الاتصال والإعلامية، بدأ في جعل العالم قرية واحدة وأزال الحدود، واخترق السيادات. وهذا وحده كاف للتأكيد على أن العولمة نتيجة حتمية من نتائج التاريخ، ولربما كانت بديهة من بديهاته! أما على المستوى الثقافي، فهي ليست غريبة عنا، ففي ديننا نصّ قرآني واضح يقول : {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} (صدق الله العظيم) فلا خوف من الآخر إذن، ولا رفض له، ولا إقصاء له تحت أي عنوان، بل تعرف عليه واستيعاب له وتفاعل معه، فالإنسانية واحدة، وإن تعدّدت الشعوب والأجناس، والهم مشترك وإن اختلفت الأعراف والمعتقدات والأديان!. وعندما برزت نظرية الطريق الثالث بغرض أن تجعل من العولمة، وإن نظريا خيرا على الإنسان ونماء للبشرية، كان أن أغرت عدة نفوس، وشجّعت الكثير من المتردّدين لمعانقة أمل ما، بعد خوف وهواجس وريبة من سيطرة الرأس المال المتوّحش، ومن فتوّة زائدة لامبرياليات شرهة، خصوصا أن ذلك الإغراء انطلق من تمجيد أصحاب النظرية لمثال التنمية المعتمد في البلدان الاسكندنافية على وجه الخصوص، حيث يتعايش القطاع العام مع المبادرة الحرة، وحيث يقع تقديس الابتكار والعمل، بشكل لا يجعل الضمانات الاقليمية الكثيرة المتوفرة هناك، تنتهي في الأخير إلى كسل وركود! وقد كان حوار الإنسانية، قبل مجيء هذه الإدارة الأمريكيةالجديدة، يحوم كله حول مسائل تحاول أن تجد القواسم المشتركة بين شعوب العالم، وأن تلغي خصوصا المسافات الحضارية الرافضة للآخر عن عنجهية أو عن عدم تعوّد، وأن تحاول بناء واقع حضاري جديد يتحسّس تجسيدا ما لنظرية وحدة الوجود المادية والثقافية. لكن وبقدوم هذه الادارة انقلبت كل الأولويات رأسا على عقب، وتحوّلت جميع الآمال إلى كوابيس، أعادت العالم إلى توتراته القديمة، وأقامت حدودا إسمنتية بين الشعوب، وعادت الى منطق احتلال العراق واستباحة أراضيه وثرواته، والاعتداء على خصوصياته مع اشعاره بالدّونيّة، وهو ما يثير بالضرورة ردّات الفعل وما يُذهب هدرا بكل تلك المحاولات التي كانت ترمي إلى توليد الأمل من داخل الخوف، وتقريب المسافات من داخل بُعدٍ خلقته ثقافات عليها أن تتغيّر نحو مزيد من التفتح والتسّامح والقبول بأخوّة الإنسان للإنسان! ولقد استكثرت الادارة الأمريكية على الإنسانية هذا كله، انطلاق من أمرين اثنين بدرجة أولى : ثقافة منغلقة على الذات لا تقبل بالآخر أصلا، والمتأمل في ثقافة أعضاء هذه الادارة يراها تتراوح بين نقيضين، ثقافة دينية أغبر حتى من القروسطية ذاتها، وثقافة «تروتسكية» يسارية قديمة بدأت وسائل الإعلام الأمريكية تكشف عن رموز لها، وبوّأت نائب وزير الدفاع وولفويتز كزعيم لها. مصالح اقتصادية ضاربة وشرهة ونهمة لا تقبل بأي تلطيف على مستوى العلاقات الدولية، ولا هاجس لها إلا السوق الذي يمكن أن تخترقه لو هو استعصى حتى بالحديد والنار والجيوش الجرارة. لقد داست الإدارة الأمريكية، عبر العراق على العالم كله، وتآمرت على شعوبه قاطبة، وألهبت بالسياط ظهور أعراقه جميعا. لذلك فإن جريمتها لا تخص منطقة ما، أو شعبا ما، أو أمّة ما هي أشمل بكثير من هذا الذي نرى، وأعمق بكثير من هذا الذي نشاهد، وهي مستعدة أن تجعل من البسيطة كلها سجنا مثل «أبو غريب» و»غوانتانامو»؟