يواصل صلاح الدين بوجاه تسجيل حضوره في الساحة الروائية والقصصية وسعيه من أجل كتابة باحثة تلقى الصدى الواسع، تمتاز بالتنوع والثراء وتكشف عن عمق تجربة الكتابة عنده وهذا يؤكده الصدى الذي يحفل بهذا الكاتب هنا وهناك. وتعدّ مجموعته القصصية «لا شيء يحدث الآن» الصادرة منذ مدة آخر ما وقع بين يديّ من أعماله المتنوّعة وقد جاءت في 143 صفحة وضمّت القصص التالية: البالوعة مخدع للحلازين حارس البيت القديم مقهى المتقاعدين ما أعسر المشي علي قدم واحدة رعونة لا تكفي لغسل الروح الكفيفات أواني المعدن المطلية بالكروم النهر لا يغسل كل شيء المصعد الفئران تحجم عن قضم المعنى المرأة التي تدبغ ظهور الرجال روح تائهة تطلب ملاذا.. وتحيل هذه المجموعة على فضاءات مختلفة من التناول بما فيها من خصوصيات أسلوبية ومعنوية، ولكني سأقتصر في هذه المحاولة على تتبع بعض خصائص السرد في بعض هذه القصص. * * * تتميز هذه المجموعة القصصية ببنية خطية تتبع مسار الحدث لكن بين مسار البداية والنهاية تدور الحكاية ويحدث الاسترجاع مثال ذلك قصة «روح تاڈئهة تطلب ملاذا» حيث تنتهي باختفاء زرنيخ وموته ولكنها تغرق قبل ذلك في تفاصيل رحلته وذكرياته فالكلب زرنيخ في نهاية القصة يبدو ميتا: «يصمّ أذنيه عن كل نداء، يركب عنته القديم، يلتصق بالتراب مثل دودة لا لون لها، يكف ذنبه عن الحركة، تكف أذناه عن تشرب الأصوات وخيشومه عن التقاط أية رائحة وبره ذاته لن يتحرك في الريح.. سيتجمد مثل شوك جاف بلا حياة..» ص 141. ولكن الوصول الى هذه النقطة مرّ عبر تذكر مراحل وتفاصيل من حياة الكلب «... جال في خاطره مرة أخرى أنه مجرّد كلب سائب، استرجع مشاهد قديمة استحضر لحظة هوى فيها النصل اللامع على رؤوس الجراء الصغيرة يحصدها، ذكر برهة اللقيا على حافة حقول القمح بين الصبية فاطمة وراجح العجوز. استعاد ثقته بنفسه، هتف بين الذات والذات وصرخ..» ص 140. والملاحظ في أغلب ما تمعنت فيه من قصص هذه المجموعة أن تقدم السرد بطيء إذ يتكئ الكاتب على أساليب وصفية واسترجاعية ويصبر قصه أشبه بحالة انسياب خارجي يتركز على وصف الأشياء والأشخاص ومع ما نشعر به من رتابة السرد من ناحية التقدم والسرعة فإن الكاتب جعل النهايات مفاجئة وقصيرة وهي تبدو كأنها محاولة للتخلص من نمط سردي ليس إلا.. بل تبدو هذه النهايات عادة تراكيب انشائية لا تحمل المضمون الحدثي الاخباري القوي مثال ذلك نهاية القصة الأخيرة «روح تائهة تطلب ملاذا» : «سينادي النهر بكل حرقة الماء الذي يختزن في جوفه المتحرك زرنيخ ستنادي أشجار الاوكالبتوس والبئر والتوتة وحقل الزيتون ستهتف به البيوت خلف حاجز التين الشوكي.. ويبقى النداء حارقا معلقا في سماء الريف: «زرنيخ.. زرنيخ!» ص 141. فاختيار المستقبل لإنهاء القصة هو خيار خاص يندرج ضمن تصورات لا سردية حديثة بالمعنى التقليدي، فالحدث الختامي غير ظاهر وغير مؤكد وضربة النهاية تقوم على الزمن المطلق. أما قصة المرأة التي تدبغ ظهور الرجال فتبدو نهايتها حتمية ألا وهي الموت.. موت المومس فدوى ورغم أن الحدث قد حصل فالكاتب رام إبلاغه إلينا بطريقة أخرى جمع فيها ما بين الانشاء وغيره حيث توسل بالشرط والأسئلة لإنهاء قصته. «هل تنتهي فدوى بهذا الأسلوب العابث؟ بهذه السرعة وهي صاحبة الاكتشاف الذي هزّ العباد والبلاد: تبادل رسائل مدبوغة فوق ظهور الرجال وتحويل الحوار من لقيا الجسد الى عناق بين الأرواح؟ لم تستغرق حياتها وبدع رسائلها وقتا طويلا مضت مثل حركة طائشة من حركات الحياة. لو كانت هنا تشهد نهايتها لشمرت ثوبها الطويل وشدت وسطها بحزام مرتجل وطفقت ترقص وحيدة طافحة بفرح لا يوصف قبل أن تتجمع النساء ويقدم حاملو رسائلها يرافقونها في جرحها الأخير» ص 128. إن هذا الأمر يكشف لنا عن خصوصية تميزت بها هذه القصص وهذه التجربة السردية فكان مجال النهاية مجالين: نهاية سردية للأحداث انتهت فيها فدوى وزرنيخ وآخرون ونهاية أخرى ما بعد هذه النهاية هي التي يعبر عنها الكاتب بهذه التراكيب الانشائية وبهذا الخيال الثاني لمصير آخر الشخصيات. فكأن نهاية الأحداث السردية لا يعني نهاية القص ولا يعني زواله، فالنهاية لها توليد سرد آخر وهذا يذكرنا ولو قليلا بالسرد العربي القديم الذي اعتاد أن يختم السرد بالخلاصة والمثل والحكمة وغيرها أما وجه اللقاء فهو أن لا يكون الحدث الأخير نهاية للنص. والمتأمل في خصائص هذه الكتابة السردية يلاحظ الحضور الجلي الكبير للوصف الخارجي والباطني للشخصيات والأماكن وهي أمور تكشف لنا عن نقاط قوة في لغة السرد التي حاولت توظيف مفردات الواقع وصوره بشكل يجعل السرد ينفتح على اشارات كثيرة ويتحمل الكثير من المضامين بإيجاز شديد وهذا سرّ من أسرار الكتابة الباحثة. وإذا كانت أغلب القصص تستمدّ بنيتها وأحداثها من تجارب الواقع ونواميسه وتحمل اللون الواقعي فإن الكاتب حاول الاثارة وكسر هذه الخصوصية في بعض قصصه اذ جنّح بخيال، ليس بالضبابي أي أنه خيال يحمل الدلالة الرمزية أو الايحاء بمعاني أخرى فقصة المصعد مثلا تقوم على فرضية خيالية تحمل سرّا.. إذ ليس من السهل التصريح بأن المصعد يعشق خولة ويمارس معها طقوس العشق وليس من البسيط أن تدخل هذه الواقعة في «فنطازيا أخرى» توظف الضجيج الاعلامي العالمي بعد اعلان احتجاز المصعد للفتاة وهي كلها مفاتيح لدلالات ومقاصد معينة. «... استحوذ النبأ على اهتمام الجميع حركة دؤوب لا عهد لهذه الصحف الكبرى بها من سواق شاحنات التوزيع الصغرى حتى مديري الأقسام والمشرفين على الأركان القارة.. لا أحد ينبس بكلمة إلا أحد يدرك حقيقة الأمر، ماذاحدث؟ مصعد مجنون يحتجز سيدة في الأربعين. هل بينهما ثأر قديم أم يقع ذلك لأسباب سياسية أم لغايات عسكرية أم لهدف طبي.. وكالات الأنباء تسارع بإرسال مبعوثيها الى الحي حيث المصعد الخشبي والسيدة في الأربعين» ص 104. إن مقطعا كهذا يؤكد ما ذهبنا إليه في عنصر سابق من حيث ثراء اللغة وانفتاحها على ايحاءات عديدة، فهذه القصة المصنوعة من خيال والتي تتناقض عوامل وقوعها تحمل دلالات أخرى. أليست إشارة الى الضجيج الاعلامي الحالي وهذه الثورة الاعلامية بما أصبح يعنيه الخبر اليوم وما أصبح يمثله في حياة الناس؟ وألا تكشف التحاليل أو الأسئلة التي طرحها البعض واحتمالات تحليل الواقعة وتفسريها عن حيرة الانسان المعاصر ووقوعه في فخ الافتراضات والتحاليل المتداخلة التي يقدمها الاعلام اليوم؟ أليست هذه إشارة الى عجز الانسان المعاصر عن استيعاب ما يجري؟ وأليس الاحتجاز في حدّ ذاته اشارة الى ما يحدث في عالم اليوم من أحداث مختلفة مثل الاختطاف والحجز والاختفاء؟.. وإذا بالقصة تخرج من ايحاءات ضبابية في ظاهرها، عاطفية وجنسية وعجائبية الى ايحاءات سياسية وفكرية. * ملاحظات أخرى : أود وأنا أخرج من موضوعي الذي حددته لهذا المقال ومن الجانب الخاص الى ملاحظات أخرى حول جوانب أخرى من هذا العمل لعلي أواصلها إذا سنحت الفرصة بإكمال دراسة هذا العمل وهي ملاحظات خاطفة على العموم. * شخصيات قصصية تستمد دلالتها ووجودها من الواقع ومن دهاليز المجتمع (مومسات، خادمات، حراس، متقاعدين) وهي شخصيات تكاد تسيطر على عالم هذه المجموعة ويبدو أن الكاتب أراد أن يطبعها بخصوصيتها التونسية وهذا يظهر على الأقل في الأسماء التي أطلقها على هذه الشخصيات مثل التومي بن ساسي شهيل أو صالح بن محمد بن محمود أو فدوى بنت أحمد الرويني. * أماكن متنوعة من بينها القيروان التي تمّ توظيف صورتها في احدى القصص بطريقة جريئة ومثيرة وذلك تحديدا في الحارس القديم. * ثراء هذه القصص بالمضامين والدلالات المتنوعة وكثرة القضايا المدروسة وهو ما يكشف أن الكاتب يتبع واقعية تحليلية تجنح الى الترميز.