إن تقييم أمريكا علاقانيا لا يعني الرغبة في التخلص منها. ما يحتاج اليه العالم ليس اختفاء أمريكا، بل عودتها الى ذاتها ديمقراطية كبرى ليبرالية منتجة تتعايش مع مثيلاتها اي الديمقراطيات الكبرى الاخرى في العالم. ايمانويل تود عبد الرؤوف المقدمي يخفي كل الطغاة جانبا كبيرا من الضعف في شخصيتهم. ويتجلى ذلك عموما في حركات السخف التي يقدمون عليها والتي لا تليق بالكبار وفي ممارسات منحطة لا يتصورها العقل الا من الغوغاء والسوقة! لذلك أو لعله كذلك يرفض كاتبنا كل المبالغات التي تحوم حول أمريكا ومنها مفهوم القوة العظمى lصhyperpuissance. فهذا المفهوم حسب رأيه يضلل المحللين السياسيين بدلا من ان ينير لهم السبيل. إن مثل هذه الافكار لا تساعدنا على فهم الحالة الراهنة، ذلك أنها ترسم لأمريكا صورة فيها الكثير من المبالغة سواء كان ذلك في اطار الشر أم في اطار القوة! والحقيقة ان هذا التمشي ليس بغريب على «ايمانويل تود» الذي انتبه الى جانب الضعف وليس القوة في الولاياتالمتحدةالأمريكية. يقول : ان الخط الاستراتيجي المتسم بالتردد والعنف بما يشبه خطوات السكران للدولة العظمى الانفرادية لا يمكن تفسيره تفسيرا مقنعا الا بتعرية التناقضات.. وبالكشف أيضا عن الشعور بعدم الكفاية والخوف الذي ينجم عنه. ويؤكد : تبدو التحاليل التي يقدمها بعض ممثلي النظام (يقصد الأمريكي) أكثر قربا من الحقيقة. ونجد عند بول كينيدي وصموئيل هنتنغتون وهنري كيسنجر وبريجنسكي وروبارت جلبان النظرة نفسها لأمريكا : «ليست الولاياتالمتحدة غير قابلة للهزيمة وعليها أن تتولى إدارة قوتها النسبية المتناقضة في عالم يتزايد عدد سكانه كما يتصاعد مستوى التنمية فيه. إن تحاليل القوة الأمريكية متنوعة فهي اقتصادية لدى بول كيندي وجلبان وثقافية ودينية لدى هنتغتون وديبلوماسية وعسكرية لدى كيسنجر. ولكنها كلها تضعنا أمام القلق من صورة لقوة أمريكا التي يبدو ان سلطانها على العالم هش ومهدد. تأثير يقول المؤلف : «ليست أمريكا تلك القوة العظمى، ولا يمكنها في المرحلة الراهنة أن ترهب سوى الدول الضعيفة. وسوف تكون في الصراعات الشاملة تحت رحمة تحالف يضم الأوروبيين واليابانوروسيا. هؤلاء مجتمعين لديهم القوة الكافية لخنقها. ولا تستطيع أمريكا ان تعيش على نشاطها الاقتصادي فقط، لأنها بحاجة الى مساعدات من اجل الحفاظ على مستوى استهلاكها، وهي تحتاج يوميا الى ، مليار دولار لتغطية العجز في ميزانها التجاري، ويأتي كله تقريبا من أوراسيا، اي أوروبا واليابان بالدرجة الاولى. وعلى الأوروبيين أن يعلموا ان وجود سياسة متوازنة على مستوى القارة ستكون له آثار اقتصادية عالمية، ويكسر بالفعل الاحتكار الأمريكي للتنظيم الاقتراضي. واذا بدأ الأوروبيون بتطبيق سياسات انعاش شاملة، فإنهم يقضون على الخدمة الحقيقية الوحيدة التي تقدمها الولاياتالمتحدة الى العالم، اي «دعم الطلب». واذا أصبحت أوروبا قطبا مستقلا للتنظيم كما يراه كينز، فإنها سوف تضع بالفعل نهاية للنظام الأمريكي». اذا حدث مثل هذا التغيير، فإن المؤلف يتنبأ بأن يظهر قطب للتنظيم في أوراسيا يكون أقرب الى قلب العالم، ويمكن حينها الحديث عن توقف التدفقات المادية والمالية والهجرة التي تغذي أمريكا اليوم، وسوف تعيش عندئذ الولاياتالمتحدة كغيرها من الأمم، وتسعى الى تحقيق التوازن في حساباتها الخارجية، مما يشكل ضغطا يؤدي الى انخفاض مستوى معيشة سكانها بمقدار الى . ويضيف المؤلف : «إن تقييم أمريكا عقلانيا لا يعني الرغبة في التخلص منها. ما يحتاج اليه العالم ليس اختفاء أمريكا، بل عودتها الى ذاتها ديمقراطية كبرى ليبرالية منتجة تتعايش مع مثيلاتها الديمقراطيات الكبرى الاخرى في العالم». ويطرح المؤلف السؤال مجددا : ماذا بوسعنا ان نعمل؟ ويرد على السؤال بالنقاط التي نورد تخليصها في ما يلي : أولا، ليس من سياسة دولية قادرة في الوضع الحالي لعلاقات القوة الاقتصادية والديمغرافية والثقافية العالمية، على التأثير في سير التاريخ، وكل ما يمكن عمله هو محاولة تسهيل بروز بنية فوقية سياسية حكمية. ثانيا، إن وجود توازن رعب نووي أمر ضروري في اطار حالة عدم اليقين التي يوجد بها الاقتصاد والمجتمع الأمريكيان وذلك إما بالقدرات الروسية او بإنشاء قوة ردع أوروبية. ثالثا، على أوروبا واليابان التفاوض مع روسيا وايران والعالم العربي حول ضمان تموينهما بالبترول. عالم آخر رابعا يجب ان تكون الأممالمتحدة أداة التسوية الشاملة. ويجب على الأممالمتحدة من اجل ان تكون اكثر فاعلية ان تضم الى العضوية الدائمة لمجلس الامن كلا من اليابانوالمانيا كي تمثل بصورة أفضل علاقات القوة الاقتصادية الحقيقية. وسوف لن تحول دون ضم اليابان صعوبات على خلاف المانيا، نظرا الى ان أوروبا ممثلة بما يزيد عن حصتها في ملجس الامن، الا انه يمكن تجاوز هذه العقبة بتخصيص مقعد دائم واحد في المجلس تتناوب عليه المانيا وفرنسا. خامسا، يجب اعادة النظر في التوزيع الجغرافي للمؤسسات الدولية بنقل بعضها من الولاياتالمتحدة الى أوراسيا، من اجل ان يعكس ذلك الحقيقة الاقتصادية للعالم. ويمكن التفكير في احداث مؤسسات جديدة تحاشيا للصعوبات التي يواجهها نقل مقر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين فقدا الكثير من قيمتهما. ويختم المؤلف رؤيته بما شبه الموعظة : «هنالك شيء واحد أساسي لا يجب ان ننساه، وهو ان القوى الحقيقية هي ديمغرافية وتربوية وتعليمية، وان السلطة الحقيقة هي اقتصادية، ولن يفيد شيئا ان ننساق وراء سراب تنافس عسكري مع الولاياتالمتحدة وعلينا ألا نقتدي بالجيش الأمريكي فنستبدل مفهوم عمليات المسرح بمفهوم مسرح العمليات. لنترك أمريكا الحالية تستنفد ما بقي لها من طاقة في «محاربة الارهاب» تلك الحرب التي تسعى من ورائها الى الاحتفاظ بهيمنتها التي لم تعد موجودة. واذا أصرت على أن تثبت قوتها الهائلة فإنها لن تفلح في أكثر من ان تكشف للعالم عن عجزها».