إذا كانت بعض الدول العربية حافظت على «المسحراتي» لما يعنيه من ذاكرة اجتماعية وحضارية وقيمة معنوية كبيرة لدى العرب والمسلمين فان «بوطبيلة» لدى التونسيين ذهب من غير رجعة واندثر بالكامل ولم يبق منه سوى بعض الذكريات الحلوة والجميلة التي يرويها عدد من المسنين والعجائز بكل حنين وأحيانا بحسرة واضحة وأسف على ضياع مثل هذه العادات الاجتماعية العريقة. وكالعادة سيحدثنا الباحث محمود زبيس عن هذه العادة الرمضانية المندثرة فيقول: بوطبيلة لمن لا يعرفه من جيل الشباب والأطفال هو رجل يتولى مهمة إيقاظ الناس لتناول وجبة السحور ويسمونه في الشرق «المسحراتي». لازالت ذاكرتي تحمل بعض التفاصيل المتعلقة ببوطبيلة. ومما اذكره أن «المحرك» وهو العمدة حاليا هو من يقوم بمهمة بوطبيلة بنفسه وفي بعض الأحيان يكلف رجلا آخر ليتولى مهمة إيقاظ الناس لتناول وجبة السحور ويدفع له أجرا معلوما مقابل هذه الخدمة الاجتماعية. وكان بوطبيلة يقوم بجولة كل ليلة طيلة شهر رمضان المعظم بين الأزقة والأنهج ناقرا بعصاه على طبل صغير الحجم ومن عاداته أيضا أنه ينادي ببعض أسماء أصحاب المنازل من متساكني الربضين أي باب سويقة وباب الجزيرة. على خلاف المدينة العتيقة التي يسكنها علية القوم من الطبقة البرجوازية لذلك كان بوطبيلة يكتفي بالنقر على طبله تفاديا للإزعاج وإقلال راحة أفراد هذه الطبقة الاجتماعية. أما بمدينة باجة فقد روت لي والدتي كيف كان بوطبيلة يتغنى برمضان ويصدح ببعض الأغاني الدينية ويدعو السكان للاستيقاظ وتناول السحور وفي آخر ليلة من ليالي رمضان يردد العبارة التالية «لا حال يدوم رمضان البارح والعيد اليوم». وقد أدركت في شبابي عم حسن الشتوي الذي أجره «محرك» حومتنا الراحل عمر الزهار الذي صار فيما بعد «باش محرك» ليقوم بمهمة إيقاظ الناس لتناول السحور وكنا نترقبه نحن الشباب لينادي بأسماء بعضنا وكان هذا الأمر مدعاة للتفاخر فيما بيننا عندما كنا صغارا أما عندما صرنا في مرحلة الشباب كنا نطلب من بوطبيلة المناداة باسم شخص معين نريد استقزازه وإثارة حفيظته كنوع من الفذلكة والدعابة وإضاعة الوقت وإضفاء بعض أجواء المرح على الليالي الرمضانية. وبداية من اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان يخرج «المحرك» بنفسه حتى ولو كان قد أجر شخصا آخر لإيقاظ الناس لتناول السحور ويقوم بجولة داخل الأنهج والأزقة وينقر على الطبل بعد أن يقف أمام باب كل منزل ليتسلم من رب العائلة إكراميته الرمضانية المتمثلة في حصوله على مبلغ نقدي من المال قيمته 500 فرنكا وهو مبلغ مالي هام في ذلك الوقت. على خلاف بقية المدن الداخلية حيث يتحصل «بوطبيلة» على بعض المواد الغذائية والقمح والشعير وغيرها من البضائع والمواد الاستهلاكية الأخرى التي يجود بها الناس عليه مقابل التعب والمشقة التي تحملها طيلة شهر كامل لإيقاظهم للسحور. هذه العادة الرمضانية المتوارثة عبر الأجيال والتي عشنا أوجها بدأت تدريجيا في الاندثار كغيرها من العادات الرمضانية الجميلة الأخرى بداية من تاريخ حصول تونس على الاستقلال واختفت تماما سنة 1962 تقريبا بسبب التحولات الاجتماعية الجديدة حيث كثرت تشكيات المواطنين وخاصة منهم سكان الأحياء الجديدة خارج المدينة العتيقة وسكان العمارات من بوطبيلة الذي أصبح في نظرهم مصدر إزعاج وقلق. وأصبحت مهمة بوطبيلة في حد ذاتها صعبة نظرا للتحول العمراني الجديد وصار من الصعب إيصال صوت طبله الصغير الى من يسكن في الطابق الرابع من إحدى العمارات وعندها شعر أن مهمته القديمة انتهت تماما هذا بالإضافة الى المكانة الاجتماعية والوظيفية التي أصبح يتمتع بها «المحرك» حيث أصبح بعد الاستقلال يسمى العمدة وأصبحت وظيفته ذات قيمة اكبر وأصبح من غير اللائق أن يواصل عمله القديم ويقوم كل ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان بطرق الأبواب والحصول على بعض الصدقات. ويقول الباحث محمود زبيس: كنا قد حاولنا نحن سكان حي باب العسل إعادة بوطبيلة الى نشاطه لكن تشكيات المواطنين وقفت سدا أمام تحقيق زغبتنا وهكذا اندثرت عادة بوطبيلة نهائيا سنة 1963.