عندما أُعلن عن بعث إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم كنت من الذين انتابهم بعض الشكّ او ربما شعروا بالخوف من ان تفتح هذه الإذاعة باب محاكاة بعض القنوات الدينية في مشرقنا العربي التي تملّكت فكر وعقل الجماهير بالغيبيات وعطّلت ملكة التفكير والاجتهاد، وحوّلت سبل اليسر الى مسالك العسر وقسّمت الوجود الى بياض وسواد والشريعة السمحاء الى مجرد مذكّرة حلال وحرام، ووراء كل ذلك تكريس لتعطيل عمل العقل وتغليق لباب الاجتهاد. (2) غير أن إذاعة الزيتونة جاءت مخالفة لما جرت به عادة تلك القنوات الدينية المشرقية فأبدلت خوفنا طمأنينة وبدّدت مخاوفنا، فكانت إذاعة أصيلةتونسية المنبت لا شرقية ولا غربية، مغاربية العراقة أندلسية الحكمة. ومع استمرار نشاط هذه الإذاعة، اتضح بشكل جليّ مكانتها ووظيفتها في باقة الاذاعات الوطنية، كمحطة ومنارة، للخطاب الديني المستنير. ولاشك أن من أهم ما تقوم به هذه الاذاعة ضمن وظيفتها هذه نجاحها في تلبية الحاجة الروحية للفرد والمجتمع وسدّ فراغ كان مهددا بالانفلات تحت ضغط المضاربات الهستيرية للخطاب الديني المتطرف والذي كان يروّجه أئمة الفضائيات ومحترفو الوعظ التجاري البخس انطلاقا من مشرقنا الاسلامي خصوصا. كما أن من وظيفة هذه الإذاعة التنويرية احياؤها وإبرازها لتراثنا الديني الأثيل والأصيل الذي ما فتئ يذكّر أن جناح العالم الاسلامي إنما مجال خفقانه هو فضاء افريقية تونس المزدحم بالعلماء والمجتهدين بدءا من مؤسسي المالكية بالقيروان ومرورا بعلماء الزيتونة ووصولا الى شيوخ القرويين بفاس وفلاسفة الأندلس. والناظر فيما تقدمه إذاعة الزيتونة يدرك لا محالة قيمة ما تقدمه هذه الاذاعة للتونسيين من أسباب النخوة والاعتزاز، وهم يكتشفون عمق تراثهم الاسلامي وذخائره التونسية النفيسة من فقه وقراءات ومدارس في التفسير ومراجع الاجتهاد وطرائق في الإنشاد ومتونا في التوحد والابتهال. وهو ما يؤكد في ذات الوقت خصوصية الشخصية التونسية المغاربية في استقلاليتها التاريخية وامتدادها بالعالم الاسلامي شرقا وغربا. (3) حين ترافقنا إذاعة الزيتونة على إيقاع حياتنا المزدحمة، فإنها تؤكد نجاحها في شد انتباهنا وسقي روحنا وتتعهد ذاكرتنا، ولعلّنا ونحن نطمح لنجاح أمثل نأمل ان تزيد هذه الإذاعة من فقرات تساهم في توسيع معرفة المستمع بتنوّع معارف القرآن في التفسير والتأويل وإضاءة إدراكه بمستجدات الفكر الاسلامي الجديد من بحوث ودراسات وإصدارات بما يجعل برنامج هذه الاذاعة متكاملا، قاطعا الطريق امام الغيبيات والإفتاء الارتجالي والاستهلاكي حسب الطلب. (4) إن إذاعة الزيتونة جعلت التونسي يعيش اسلامه خالصا هادئا، لا أن يعيش منه أوبه، أو يكون في حاجة الى ان يعيشه بتفويض أو بوكالة او أن يعيشه في زوايا التطرف او الاسفاف، وذلك دون شكّ مكسب كبير.