(حسب مقولة إبن خلدون والذي كان يسعى إلى سماع الرأي من لدن شيخ فقيه ثم يسعى إلى آخر يسميه القنديل الثاني ليتلقى رأياً موافقاً أو مخالفاً). موعدنا اليوم مع قنديل مضيئ في عالم الشعر والكلمة، الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي حاورته رشاء التونسي عرفت مريد البرغوثي سنة 80 عندما نظم مهرجان قرطاج بإدارة رجاء فرحات وسمير عيادي سهرة الشعر العربي ،والتي جمعت مائة شاعر وعشرة آلاف متفرج عندما كان عالم الثقافة عالماً وجمعتنا منذ ذلك الزمن صداقة عميقة أعتز بها، فمريد لا يشبه إلا مريد، إهتدى مريد باكراً إلى نبرة خافتة ولغة دقيقة تتجنب الشاعرية الجاهزة والمتوقعة، بعد مسيرة طويلة يبدو الشاعر وكأن رغبة البدايات هي التي تقوده إلى نبرة تقوم على تبريد اللغة وإبطاء المعنى وتأجيله، بمعنى أن كل كتاب يبتعد عن سابقه لمحاولة اكتشاف معنى جديد للقصيدة. وفي مقدمة ترجمة كتابه «رايت رام الله» كتب إدوارد سعيد: (هذا النص المحكم المشحون بغنائية مكثفة, الذي يروي قصة العودة بعد سنوات النفي الطويلة إلى رام الله في الضفة الغربية هو واحد من أرفع أشكال التجربة الوجودية للشتات الفلسطيني التي نمتلكها الآن). تزوج مريد من الروائية والأكاديمية المصرية رضوى عاشور عندما كانا طالبين يدرسان اللغة الانقليزية وآدابها في جامعة القاهرة وخلال زواجهما اضطرا للافتراق طوال 17 عاما. هو ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية في بودابست وهي مع ابنها تميم البرغوثي الشاعر المتميز. لننطلق من ذكريات الطفولة؟ الطفولة كاللذة لا تستعاد بالتذكر، بل تواصل عيشها في مراحل العمر، لا أحد يستعيد طفولته كما هي بالضبط، أمارس الكثير من طفولتي في عمري الحالي، لم تغادرني تلقائيتي رغم الإنضباط العقلي المرتبط بالعمر، ظل فيَّ من الطفولة القدرة على السخرية والتهكم، ما زلت قادرا على كتابة القصيدة الساخرة، التي تفجر الضحك لدى القارئ / المستمع، وظل فيّ من الطفولة الاستهتار ب «الكبار»، الطفل لا كبير لديه، وبالتالي لا أحسب حسابا لمن يملكون مقاليد الامور السياسية والادبية والنقدية. ظل فيّ ايضا الرغبة في الوضوح،الجميع يمر بالطفولة أو تمر به، و لايبقى في مرحلة الطفولة إلا من مات صغيراً، ومن المحزن أننا كلنا ننضج. أليس كتاب «رأيت رام الله» محاولة رجوع للطفولة؟ كثير ممن تعاملوا مع الكتاب بصفته كتاباً عن العودة إلى وطن ترك لمدة 30 سنة، لكنه يحكي غيابي لمدة 30 سنة، هو رام الله طوال غيابي عنها، 30 سنة من العيش خارج مكان الولادة، خارج المكان الذي لك الحق أن يكون مكانك، الكتاب هو العمر الإضطراري الذي مر وأنت مكسور الإرادة . من اللحظات الجميلة في الكتاب لحظة الجسر؟ يحتاج الكاتب إلى مجاز، وفي حالتي إنتقال العمر من معنى إلى معنى، من جغرافيا إلى جغرافيا، الجسر المجازي الذي كنت محتاجه ككاتب وفرته لي ترابية الجسر، وحقيقة الجسر الخشبية التي تطقطق تحت الأقدام، بحيث تشعر إنه قد يسقط بك فيما تبقى من النهر الذي خسر صفاته المائية. ماذا كان شعورك حين تخطيت الجسر؟ عندما تخطيت إلى الضفة الأخرى حيث أصبح التراب فلسطينيا، لمع في ذهني أنني أتخطى حاجزاً في الجغرافيا، حاجزاً في الوجدان، خلفي العالم وأمامي عالمي، بعد خطوة سأمر إلى الضفة الفلسطينية وكل ما أراه سأشعر به للمرة الأولى، رأيت للمرة الأولى النتائج السيئة لإتفاقيات أوسلو، المستوطنات والأعلام الإسرائيلية في ارضك، بطلت الناس قول العدو، صار الإسرائيلي، صار هناك جملة الجانب الآخر، ما كتبت كانت مشاعر لم تكن متوفرة قبل ربع ساعة من تخطي الجسر، الجسر تحول من مجاز إلى واقع ملموس. شخوص حميمة موجودة في كتابك خاصة شخصية ناجي العلي مع كثير من الأسى والحب؟ أين ناجي العلي من أيامنا هذه التي نعيشها؟ ناجي كان من الذين رأوا مبكراً أن النخبة الفلسطينية التي تقود الصراع لن تصل إلى تحرير البلاد، شرف ناجي العلي الشخصي هو في شجاعة هذا الجسم النحيل الذي يرى الاغتيال قادماً منذ سنوات، ويمشي دون أن يغير إيقاع خطواته، قلت له «يا حبيبي، يا صديقي اهدأ، هون شوي» هناك شجاعات شعوب، شجاعات جماعية لبشر، لكن كفرد بلا حزب، بلا سند، لم أرَ أشجع منه، لو رأى ما ألم بنا لكان طق ومات، ناجي أحد المصائر لفلسطيني بصفاته. والشخوص الأخرى في الكتاب؟ شقيقي مُنيف البرغوثي، غسان كنفاني، لؤي الفلسطيني وغيرهم ... يعني أنظفنا، وأفضلنا، وأكثرنا حناناً، وأكثرنا لطفاً، وأكثرنا حباً، وأكثرنا كفاءةً عم يختفوا، إن لم يختفوا بالموت فليسوا هم من يقرر في حياتنا هذه الأيام، ولا هم الذين ينطقون باسمنا،. مضت عقود على بدايتك في الكتابة فأين أنت من شعرك؟ مازلت أحاول. لم أطمئن إلى أي شكل اخترته لقصيدتي وأظنني لن أطمئن. الكتابة هي محاولة لا تتوقف عن كونها محاولة. لا أدافع عن اقتراحاتي الكتابية ولا أراها اقتراحات نهائية أبداً. فأنا أكتب قصيدة النثر والقصيدة الموزونة وأكتب القصيدة القصيرة جداً وأكتب قصيدة واحدة في كتاب كامل، وأكتب قصيدة تحمل قارئها على الابتسام أو الضحك وأكتب قصيدة درامية وسردية وغنائية، هذا ليس استعراضاً لما أستطيعه، هذا استعراض لعجزي عن الاقتناع بشكل نهائي وحيد للقصيدة، السطور الأولى هي التي تحمل مطالبها و تطالبني أن آخذها إلى هذا الشكل أو ذاك، أحد أركان قصيدتي أنني أبنيها وأمنحها بداية ونهاية وجسماً يبرر كل صفاتها الأخرى. ذكرت مرة أن الشعر ليس ضرورياً اذ يستطيع الانسان ان يعيش دون ان يدخل غاليري، دون ان يقرأ كتاب أو قصيدة. إذن فلماذا الشعر؟ أقصد أن الشعر ليس ضرورة من ضرورات البقاء على قيد الحياة، لا احد يموت إذا لم يقرأ الشعر ولا أحد يعيش بمجرد كتابة الشعر، الشعر مهم جدا والدليل أكتبه. و انا متفرغ للكتابة والقراءة منذ سنوات طويلة جدا وقد اخترت ان أخسر خسائر كثيرة واعيا انها خسارات لمجرد احترامي لمهنة الشعر ودفعت أثمانا متفاوتة من تشتت عائلي وإبعاد وترحيل ومنفى بسبب الشعر، إستقلالية فكري ومنهجي الإنتقادي هو جزء من شعريتي. كتابك «منتصف الليل» نص واحد يجمع بين النثر والسرد القصصي. هو حياة كاملة لتجربة الإنسان الفلسطيني؟ لا أستطيع أن أقيم الكتاب، أستطيع أن أصفه بأنه عبارة عن ديوان شعر فيه قصيدة واحدة هي منتصف الليل، هذه القصيدة تصور رجلا في منتصف ليلة تفصل بين عامين تحديدا في الساعة الثانية عشر في ليلة رأس السنة، يجلس على حافة السرير ونافذته مفتوحة، تبدأ القصيدة بأنه يمزق الرزنامة التي على الحائط ويلقي بها من النافذة، ويقول أريد أن أنسى هذا العالم الكئيب، وسأتذكر الأشياء البهيجة التي تخصني، ثم تبدأ هذه الأوراق الممزقة بإعادة تشكيل نفسها، وتدخل من نفس النافذة على غير ترتيب، والقصيدة هي علاقته بما يقتحم عالمه فى هذا المساء المحدد وكل العناصر التي تداهم هذا الشخص تأتي معها موسيقى تخصها ولغة تخصها.يجب أن لا نقول الدنيا كما قيلت سابقاً، بل كما لم تقل ابداً ... في « زهر الرمان» حواريّة الند للند مع الموت؟ في ديوان «زهر الرمان» ثلاث قصائد تشكل إذا قرأتها بالتتالي ثلاثية شعرية تحاول كتابة الموت. هذه القصائد هي «ليلة لا تشبه الليل» و «إلى أين تذهب في مثل ليلٍ كهذا؟» و «صلاة إلى زيوس». أما عن الندية ففي ظني أن كل امرئٍ ند لموته. فهناك ميتة الذليل وهناك ميتة الشهيد إلخ. لكن الإنسان هو الطرف الأضعف في هذه المقابلة بين الحياة وختامها المحتوم. في هذه الثلاثية صوَر تحاول أن ترسم الرغبة في زيادة جرعة الحياة وإرجاء الموت ولو قليلاً أزعم أن التناول الحسي الملموس والمفردات المادية الأرضية البعيدة عن آفة «الشاعرية» تجعل من موضوع الموت عتبة للدخول إلى بهاء الحياة من ناحية، وفداحة خسرانها، من ناحية أخرى. مجموعة « منطق الكلمات» تمثل علامة مختلفة في تجربتك الشعرية؟ ديوان «منطق الكائنات» يضم أكثر من مائة قصيدة قصيرة جداً أعتبرها قريبة من فن التوقيعات الذي عرفه الإغريق القدامى بالأفوجرام، وقد كتب اليابانيون قصائد الهايكو على هذا المنوال، وكلمة «منطق» في العنوان قادمة من «النطق» وكنت تخيلت الكائنات كلها وقد امتلكت القدرة على الكلام، الإغريق أكثروا من هذا الشكل في كتابات الموت (شواهد القبور) والعرب في الحكمة واليابانيون في الطبيعة . لم تكن يوما ما من المعجبين باتفاقية أوسلو! المؤيدين لها ظنوا أنها ستؤدي إلى نيلهم حق تقرير المصير. اليوم يتضح ثانية ما كان واضحا دائما: أن إسرائيل تريد أن تقرر لنا المصير الذي يرضيها والذي تفضله هي. وهي تعاقبنا بالدبابات والطائرات لأننا نرفض أن يكون مصيرنا شأنا من شؤونها تقرره لنا نيابة عنا أن تقرير المصير هو أمر كالعطش فالعطشان لا يرتوي إلا إذا شرب الماء بنفسه , لا يجدي أن يشرب غيرك الماء فترتوي أنت. أية سريالية هنا تتمثل في دهشة إسرائيل من أننا لا نرتوى عندما تشرب هي, كيف نقنعها بعطشنا للحرية إذن؟ ثم وهذه صعوبة عمرها نصف قرن, كيف نقنع الحكومات الأمريكية المتعاقبة أن كلمة (الاحتلال) كلمة خرجت من القاموس الإنساني بغير رجعة وانتهت وهي لم تعد موجودة إلا في فلسطين التي تحتلها إسرائيل. وأن تأييدها لاحتلال بلادنا أمر لا يليق بشعبها ولا هو مقبول لدى شعبنا. وكيف نذكر الجنرالات بالبصيرة الفذة لارنست همنجواي عندما قال : الإنسان يمكن أن يدمر لكن لا يمكن أن يهزم. ما رأيك بالوضع الداخلي اليوم؟ أتساءل ما هي ضرورة أن يكون لبلد محتل كفلسطين سبعة عشر حزباً وفصيلاً سياسياً تنادي بالتحرير، المنافع الشخصية كانت أحد الأسباب الخفية لتعدد هذه الفصائل التي أرسلت للموت كثيرين منا دون نتيجة، وهاهي جميعاً تصطف مشاركة في هذا الخراب السياسي الذي أصاب فلسطين. كونك متزوج من الروائية رضوى عاشور، وابنك تميم شاعر ايضا، هل تعرض عليهما قصائدك ؟ وهل تأخذ بأرائهم النقدية؟ أم تأخذ برأي الاصدقاء؟ نحن في منزل فيه ثلاثة كتاب، روائية وناقدة وشاعران، فدائما لدينا معارك وحرائق حول فاصلة او كلمة يكتبها أحدنا، ويكون الجدال خاليا من أي رحمة من جميع الاطراف، وبالطبع تميم هو الاقسى في ملحوظاته النقدية، وتعبيراته الاعتراضية «معقول تضعوا هذه الكلمة؟» او «في أحد يكتب هكذا» تعبيرات سائدة، اما اذا انبهر بجملة نجده يقفز فرحا، ويهجم عليّ مقبلا، وكلنا نتعامل بدقة مع الكتابة، ولا يوجد أي مجاملة، هذا لا يعني رضانا جميعا عما نكتب، فمهما كانت الملاحظات على المسودات ففي النهاية يظل كل واحد منا ابن اوصافه، وابن أسلوبه، وابن لغته، لكن هذا الجدل يفتح العين اثناء الكتابة ويشير الى مواطن الخلل، وهو جدل في كل أحواله يشكل متعة بحد ذاته. عشت لفترات طويلة بعيدا عن أسرتي، وفي كل البلدان التي عشت فيها كان يشاركني في الجدل حول مسوداتي الاصدقاء الذين أتوسم فيهم اهتماما بما أكتب. كونك تعيش في الوقت وذاكرة الوقت، ماذا عن المكان وماذا يعني لك، وانت المرتحل بين 30 بيتا و 30 مدينة؟ أنا معني باللحظات التي أعيشها ولها ما يوقظ الحواس الخمس، كل لحظة يعيشها الإنسان هي مجمع لحظات، أما ملامح المكان فهي دائما مهددة بالنسيان، اللحظة الزمانية أغنى من المكان، ونحن اكثر قدرة على الاحتفاظ بأوقاتنا منا بالاحتفاظ بأماكننا، بمعنى يستطيع الغزاة ان يأخذوا مدينتي، لكن لا أحد يستطيع ان يأخذ ذاكرتي، ترتبط بعض الدواوين بقصص واحداث خاصة.. هل لك ان تحدثنا عن قصة ديوان لديك؟ ابرز حدث هو ديواني «قصائد الرصيف» احدث انقلابا في اسلوب كتابتي ولم يكن السبب في ذلك اي طاعة من جانبي لأي نظرية نقدية لا عربية ولا اوروبية، ولم يكن وليد قرار مني بالتجديد في اسلوبي، فالتجديد لا يأتي بقرار، ولا يأتي رضوخا لنظريات. قصة هذا الديوان تفسر التغير الهائل الذي شكله، ففي عام 1977 قامت سلطات السادات بترحيلي من القاهرة ليلة زيارة السادات لاسرائيل، وتم ترحيلي بملابسي فقط، بلا نقود، الى جهة اختارتها السلطات المصرية وهي بغداد وكنت اراها للمرة الاولى في حياتي، وفي احد فنادق بغداد وجدت نفسي مقتلعا من عالمي بأكمله الاسري والجغرافي والاقتصادي والمجتمعي. واذا بي أبدأ كل ليلة وكل صباح في كتابة قطع قصيرة من الشعر، وعندما انتهيت منها أدركت انني انتقلت من الشكل المألوف والشائع في كتابة قصيدتي التي كانت تشبه كل القصائد الفلسطينية آنذاك الى شكل آخر لا يشبه دواويني الاربعة السابقة، وازعم انه لا يشبه معظم ما كان يكتب وقتها، لم يعد ممكناً أن أكتب الحياة على نمط مألوف، في وقت امر به بالغير مألوف على الإطلاق. من هو المثقف في رأيك؟ أريد أن يتذكر المثقف بإستمرار أن الثقافة هي حالة إعتراضية، حالة تتنافى مع الإقرار والإعجاب بالراهن، وقد كثر هذه الأيام المثقفون الشراح والمبررون والمصفقون للرثاثة الراهنة. كلمة أخيرة عن محمود