تنتهي منتصف ليل اليوم الجمعة 23 أكتوبر 2009 وقائع الحملة الدعائيّة للانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة، وهي الوقائع الّتي تسبقُ مباشرة عملية الاقتراع المقرّرة لبعد غد الأحد. ولم يشذّ هذا الموعد الانتخابي بمراحله المقطوعة إلى حدّ اللحظة عن المواعيد السابقة من حيث إضفاء حركيّة وديناميكيّة مهمّة على الساحة السياسيّة والإعلاميّة. ولا اختلاف في أنّ الحراك الّذي عرفتهُ البلاد خلال الفترة الأخيرة لم يكن خاليا من كلّ وفاض بل على العكس كان حراكا لافتا ، إذ كرّست الأحداث الانتخابية المتعاقبة سواء بمناسبة تقديم الترشحات أو الحملة الانتخابية للسباقين الرئاسي والتشريعي حالة من الجدل الثري على مستوى لا فقط البرامج والبدائل الانتخابية بل كذلك على مستوى النصوص القانونيّة المنظّمة للشأن الانتخابي بصفة عامة هذا إلى جانب أدوار ومهام مختلف الأطراف المتدخّلة ومن أهمّها المجلس الدستوري والمرصد الوطني للانتخابات. أطوار ومستجدات «المشهد الانتخابي تونس 2009» عرف عدة أطوار ومستجدات على غاية من الأهميّة ومن المرجّح أن تُستتبع لاحقا بتواصل للنقاش حولها بهدف مزيد تطوير هذا المشهد الانتخابي في المستقبل، إذ انكشفت بحكم الحراك الّذي حصل عدّة نقاط قانونيّة تتطلّب إعادة النظر والتقييم خاصة في ما يتعلّق بضوابط ومقتضيات تقديم الترشحات للانتخابات الرئاسية والتشريعيّة، فعلى المستوى الأوّل اتّضح ما يُشبهُ الوفاق بخصوص إيجاد صيغة نهائيّة في الدستور حول شروط الترشّح للرئاسية وذلك بعد تجربة الأحكام الاستثنائيّة والّتي وان منحت توسيعا هامّا في الترشحات فإنّها بقيت محل جدل واختلاف وبنى عليها البعض أوهاما في الإقصاء والتهميش وسدّ الأبواب، ومن المهمّ التأكيد في هذا الباب على أنّ مطلب تنقيحات قارة في الفصول الدستوريّة وخاصة في الفصل أربعين المتعلّق بشروط الترشّح للرئاسيّة ليس مطلبا يسيرا ولا يحتملُ حاليّا المنطق والمعقوليّة لأنّ وضعيات البناء الداخلي للأحزاب السياسيّة وخاصة منها المعارضة فيها والمتّصفة بالضعف والوهن لا يجعلُها قادرة على كسب صراع التنقيحات «الثابتة» في الفصل أربعين ، ذلك أنّ الفصل أربعين من الدستور والّذي صيغ في جلّ فقراته من المجلس القومي التأسيسي غداة الاستقلال مباشرة (سنة 1957) أبرز تلك الحالة من الضعف في ظلّ وجود أحزاب لا قيمة عندها لتقوية بنائها الداخلي وتمتين صلابة وامتداد شعبيتها الجماهيريّة وصدقيّة مبادئها الحزبيّة والسياسيّة ،هذا إلى جانب غياب صورة لرمز قيادي من خارج فضاء السلطة والحزب الحاكم قادر على المنازلة بجديّة ونديّة وعدم توافق الأطراف المعارضة على «مرشّح موحّد» ، إذ لم تسمح تلك الشروط بحكم ذلك الوضع لأحزاب المعارضة بتقديم ترشحات فعليّة من داخلها أو من خارجها (شخصيات مستقلة) وهو المجال الّذي ساهمت الأحكام الدستوريّة في اختراقه والتخفيف من حدّته وسطوته عبر إتاحة الفرصة لتعدّد في الترشحات للرئاسيّة سنوات 1999 و2004 و2009 بمعنى آخر، هل يحتملُ وضع الأحزاب السياسية التونسيّة المعارضة الراهن وتمثّلها في السلطة التشريعيّة مطلبا في إيجاد «صيغة نهائيّة» لمضمون الفصل أربعين ؟ ، إذا كان الجواب بنعم ، وهي إجابة لا يحتملها الواقع الموضوعي ، فإنّ التساؤل عندها يكون: أيّة صيغة ستُرضي كلّ الأطراف ؟ ، هل هي خفض شروط الترشح إلى أدناها لإرضاء الكل أم ماذا بالتحديد؟ هذا دون أن ننسى المنزلة المخصوصة الّتي أقرّها «الدستور» لمنصب رئيس الجمهوريّة مع ما تقرّه كلّ الدساتير في العالم لشروط دقيقة وصارمة في الترشّح لمثل هذا الموقع القيادي في هرم الدولة. تشريعات وتصورات أمّا على المستوى التشريعي فالصورة تكاد تكون مُغايرة إذ كشفت الانتخابات الحالية ضرورة تطوير فصول المجلّة الانتخابيّة المنظمة لمختلف مراحل الانتخاب بدءا من التسجيل في القائمات الانتخابية والحصول على بطاقة الناخب وصولا إلى تقديم الترشحات وتعليل الإدارة في حال الرفض ومسائل أخرى متعلّقة بعدد الدوائر وعدد مكاتب الاقتراع والملاحظين وما إلى ذلك من الإجراءات الترتيبيّة للانتخابات. ومن المؤكّد أنّ ما تجمّع أساسا لدى المرصد الوطني للانتخابات بمناسبة هذه الانتخابات في ظل حركية المرصد الّذي استطاع أن يكون «نقطة مركزيّة مهمّة» ، كفيل بتلخيص كلّ الثغرات الّتي تمّ تدوينُها بالاتصالات مع المترشحين والإدارة ومُعاينة مجريات العملية الانتخابية بجميع مراحلها، هذا إلى جانب نصوص قرارات الأحكام الصادرة عن المجلس الدستوري وهي مرجعية هامة في مساءلة النصوص الانتخابية والقوانين المنظمة للأحزاب والحياة السياسيّة وواقع تلك الأحزاب ونوعية الناس داخلها. صور متعدّدة ومختلفة في جانب آخر متعلّق بالأداء الحزبي الانتخابي، إن صحّ التعبير، كشفت مراحل الانتخابات الأولى صورا متناقضة ومتفرّقة ربّما تحتاج المزيد من الوقت لتجميعها وخصّها بالتحليل الدقيق اللازم، ولكن من المهمّ الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ مجريات الانتخابات الحالية أكّدت حالة التشتّت الحزبي وعدم قدرة أحزاب المعارضة على تأكيد حالة من الصحوة والبناء الداخلي المتين إذ تداخلت المسائل على قيادات جلّ الأحزاب بين رؤى مُتجاهلة لحقائق الشأن الحزبي الداخلي وبين رؤى تستحضرُ تلك الحقائق ولكنّها سعت إلى تعميتها والتغطية عليها ومُحاولة تسويق خطاب سياسي «صارخ» خاصة في بابي زعامة المعارضة والصدام مع السلطة السياسيّة و«نديّة» الترشّح لمنافسة مرشّح الحزب الحاكم. ومن أوضح الصور عن الرؤية الأولى التجاء حزب معارض له مرشّح للرئاسيّة لملء قاعة الاجتماع العام بشباب من خارج الفضاء الحزبي بل وكذلك السياسي عبر ما اصطلح على تسميته في الساحة السياسية ب«ظاهرة المناولة» لتنشيط المشهد السياسي والحزبي(جلب أُناس غرباء لإحداث كثافة عدديّة وجماهيريّة)، وهي ظاهرة غريبة جدّا ومُقلقة وتنمّ عن رغبة في التشكّل والبروز بغير الحجم الواقعي والحقيقي والإمكانيات وهذا مضرّ جدّا بسلامة التمشي السياسي في البلاد. ومن صور الرؤية الثانية ، وهي أكثر دهاء سياسيّا وحنكة من حيث الرغبة في الظهور في شكل «الضحية السياسي» و»مُخادعة الناخبين والرأي العام الداخلي والخارجي» واستثارة العواطف والأحاسيس. ومن المفارقات أنّ أصحاب الرؤية الأولى والثانية معا يلتقيان في شيء آني مشترك ، وهو أنّ الاثنين يغنمان بعض المكاسب الظرفية والعابرة سواء من حيث هالة إعلاميّة تضخيميّة «تهريجيّة» أو إثارة إعلاميّة واهية و«ممجوجة»، المرتبط كلاهما براهن المشهد الانتخابي والسياسي، ولكن سُرعان ما سيخبُو بريق تلك الهالة وتلك الإثارة لينكفئ أصحاب الشأن على واقع حزبي داخلي مهترئ ومُتآكل يحتاج إلى كم من عملية صيانة وترميم. بريق أمل وتفاؤل على أنّ جوانب من مرحلة تقديم الترشحات ومرحلة الحملة الانتخابية ، أبرزت أنّ الفعل الحزبي المنظّم والخطاب السياسي الانتخابي الهادف والهادئ والرصين ممكن الحصول وإن كان بشكل خافت ومحدود ، إذ لا يُمكن أن تحجب وقائع المخادعة والمُغالطة وسلوك «المناولة» والإثارة والارتباك ، لا يُمكنها أن تحجب بعض الانجازات الإيجابيّة على مستوى عدد قليل من المترشحين والقائمات المترشّحة خاصة من حيث السير الذاتية والعمل الميداني ومعقوليّة الخطاب الانتخابي وفهم مُقتضيات الواقع المحلي وخصائصه، وهي مؤشرات وإن كانت محدودة الزمان والمكان و«اللون الانتخابي» فهي معطى مهمّ يُمكن من خلاله استشراف الإمكانيات الموجودة لنهضة الواقع الحزبي وتخليصه من العديد من النقائص، فالمناضلون الحزبيون والقيادات الحزبيّة موجودة وتطلّع الناس وخاصة منهم الشباب والشخصيات المستقلة للعمل السياسي والمساهمة في الشأن العام قائم وأرضية العمل الحزبي المنظّم والمؤطّر والقانوني متوفّرة بقدر كبير سواء عبر حزمة النصوص القانونيّة المنظّمة للحياة السياسيّة أو الوثائق والمرجعيات التأسيسيّة والقوانين الداخلية للأحزاب، لكن قليلون هم من يتقيّدون بضوابطها. هذا رصد أوّلي في انتظار رصد آخر أشمل وأعمق وأدق في أعقاب ما ستفصحُ عنهُ صناديق الاقتراع فجر الاثنين 26 أكتوبر.