إعادة 2600 مهاجر من تونس إلى بلدانهم خلال 4 أشهر    قفصة: تدعيم المدرسة الإبتدائية لالة بمعتمدية القصر بتجهيزات رقمية في إطار برنامج التربية الرقميّة    سيدي بوزيد: برمجة ثرية في الدورة 21 لملتقى عامر بوترعة للشعر العربي الحديث    القصرين: تنظيم يوم جهوي للحجيج    سعاد الشهيبي تستعد لإصدار "امرأة الألوان"    في مهرجان "كان": كيت بلانشيت تتضامن مع فلسطين بطريقة فريدة    نواب الشعب يدعون الى استغلال الأراضي الفلاحية الدولية المهدورة لتجاوز أزمة الحبوب    نبيل عمّار يتلقّى دعوة من نظيره القطري لزيارة الدّوحة    اضطراب توزيع مياه الشرب بهذه المناطق    البريد التونسي ونظيره الموريتاني يُوقّعان اتفاقية تعاون    رئيس منظمة ارشاد المستهلك يدعو إلى التدخل السريع في تسعير اللحوم الحمراء    النادي الصفاقسي: اليوم إنطلاق تربص سوسة .. إستعدادا لمواجهة الكلاسيكو    البطولة الانقليزية: نجوم مانشستر سيتي يسيطرون على التشكيلة المثالية لموسم 2023-2024    عاجل : نائب يكشف : صور و فيديوهات لعمليات قتل موثقة في هواتف المهاجرين غير النظاميين    الاحتفاظ بتونسي وأجنبي يصنعان المشروبات الكحولية ويروّجانها    عاجل/ مدير بالرصد الجوي يحذر: الحرارة خلال الصيف قد تتجاوز المعدلات العادية وإمكانية نزول أمطار غزيرة..    متعاملون: تونس تطرح مناقصة لشراء 100 ألف طن من قمح الطحين اللين    بطولة العالم لالعاب القوى لذوي الاعاقة : وليد كتيلة يهدي تونس ميدالية ذهبية ثالثة    الرابطة المحترفة الأولى (مرحلة تفادي النزول): حكام الجولة الحادية عشرة    ارتفاع أسعار الأضاحي بهذه الولاية..    وفاة نجم منتخب ألمانيا السابق    موعد تحول وفد الترجي الرياضي الى القاهرة    عاجل : قتلى وجرحى في غرق ''ميكروباص'' بنهر النيل    شقيق رئيس الترجي الرياضي في ذمة الله    إحداث خزان وتأهيل أخرين واقتناء 60 قاطرة لنقل الحبوب    مفزع/ حوادث: 22 حالة وفاة و430 مصاب خلال 24 ساعة..    وزير الفلاحة : أهمية تعزيز التعاون وتبادل الخبرات حول تداعيات تغيّر المناخ    عاجل/ آخر المستجدات في ايران بعد وفاة "رئيسي": انتخاب رئيس مجلس خبراء القيادة..    كوبا أمريكا: ميسي يقود قائمة المدعوين لمنتخب الأرجنتين    في الملتقى الجهوي للمدراس الابتدائية لفنون السينما ..فيلم «دون مقابل» يتوج بالمرتية الأولى    إختفاء مرض ألزهايمر من دماغ المريض بدون دواء ماالقصة ؟    اصابة 10 أشخاص في حادث انقلاب شاحنة خفيفة بمنطقة العوامرية ببرقو    بدأ مراسم تشييع الرئيس الإيراني ومرافقيه في تبريز    هام/ هذا عدد مطالب القروض التي تلقاها صندوق الضمان الاجتماعي..    صلاح يُلمح إلى البقاء في ليفربول الموسم المقبل    رئاسة الجمهورية السورية: إصابة أسماء الأسد بسرطان الدم    سليانة: معاينة ميدانية للمحاصيل الزراعية و الأشجار المثمرة المتضرّرة جراء تساقط حجر البرد    عاجل/ تركيا تكشف معطيات خطيرة تتعلق بمروحية "الرئيس الإيراني"..    وزير الأعمال الإيطالي يزور ليبيا لبحث التعاون في مجالات الصناعة والمواد الخام والطاقة المتجددة    البرلمان يعقد جلستين عامتين اليوم وغدا للنظر في عدد من مشاريع القوانين الاقتصادية    عمرو دياب يضرب مهندس صوت في حفل زفاف.. سلوك غاضب يثير الجدل    الدورة 24 للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون تحت شعار "نصرة فلسطين" و289 عملا في المسابقة    كان يتنقل بهوية شقيقه التوأم : الاطاحة بأخطر متحيل عبر مواقع التواصل الاجتماعي ...    قبلي: تخصيص 7 فرق بيطريّة لإتمام الحملة الجهوية لتلقيح قطعان الماشية    طقس الثلاثاء: الحرارة في انخفاض طفيف    49 هزة أرضية تثير ذعر السكان بجنوب إيطاليا    وزير الدفاع الأميركي: لا دور لواشنطن بحادثة تحطم طائرة رئيسي    منوبة.. إيقاف شخص أوهم طالبين أجنبيين بتمكينهما من تأشيرتي سفر    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    أغنية لفريد الأطرش تضع نانسي عجرم في مأزق !    تقرير يتّهم بريطانيا بالتستر عن فضيحة دم ملوّث أودت بنحو 3000 شخص    الشاعر مبروك السياري يتحصل على الجائزة الثانية في مسابقة أدبية بالسعودية    نحو الترفيع في حجم التمويلات الموجهة لإجراء البحوث السريرية    تحذير من موجة كورونا صيفية...ما القصة ؟    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد صالح الهرماسي ل «الشروق»: العرب في حالة انهيار... والتبعية العمياء للخارج وراء «البلية»
نشر في الشروق يوم 31 - 10 - 2009

«عيناي مريضتان... انهما مصابتان بالجفاف لكثرة البكاء على أمة العرب»... هكذا مهّد المفكّر التونسي الكبير الدكتور محمد صالح الهرماسي لهذا اللقاء... هذا اللقاء الذي امتدّ لساعات بدمشق تناول حال الأمة والواقع العربي الراهن وشرح فيه السيد محمد صالح الهرماسي ل «الشروق» أسباب هذا الوضع وآفاق النهوض به في ضوء ما استجدّ من ازمات ونكسات... وفي ضوء ما يلوح في الأفق من مخاطر وتهديدات المفكر القومي التونسي حمل كثيرا في حديثه هذا على النظام الرسمي العربي وتبعيته للأجنبي وحمّله المسؤولية عن حالة التردي القائمة والتي وصفها ب «الحالة الانهيارية»... كما تطرّق الحديث الى دور المثقف العربي وغيرها من المواضيع الأخرى..
وفي ما يلي هذا الحوار:
كيف تشخصون الوضع العربي الراهن في ضوء ما تشهده دول المنطقة من أزمات وما تتعرض له من تهديدات... وما هو توصيفكم لمكامن الخلل.. ولعناصر الاخفاق والفشل؟
يوحي هذا السؤال بوجود وضع عربي موحّد والحال ان هذا ليس دقيقا ما أراه ان هناك اوضاعا في البلدان العربية. لكن يمكن الحديث عن تشابه في هذه الأوضاع رغم الاختلاف طبعا. فعلى مستوى النظام الرسمي العربي يعيش كل قطر أزمات عصيبة ومشكلات صعبة تهدد وحدته وسيادته واستقلاله، والأمثلة عديدة (العراق اليمن السودان الصومال...) ، والأقطار التي لا تعاني مشكلات من هذا النوع تتخبط في معضلات تعثّر التنمية وانسداد آفاقها وتفاقم الازمات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة الى الازمات السياسية وما تنطوي عليه من مشكلات التهميش السياسي، وغياب الحريات العامة، وعدم احترام حقوق الانسان... إلخ.
وفي ظل هذه الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تكبل المواطن تكبيلا خطيرا يسلبه الكرامة، نرى هذه الأنظمة تبتعد عن بعضها البعض الى حدّ الصراع والتناحر، في حين لا يتورّع عدد منها عن التقرّب المذلّ من الكيان الصهيوني، العدو التاريخي للعرب، لعلها بذلك تنال شهادة حسن سيرة وسلوك من الإدارة الأمريكية تضمن استمرارها وحمايتها من مواطنيها..!!
ورغم استمرار الحصار الخانق على غزة المثخنة بالجراح والدمار والجوع والمرض، ورغم استمرار العدو الصهيوني في هدم البيوت وبناء المستوطنات، وفي تهويد القدس، وتهديد المسجد الأقصى، رغم كل ذلك تطلع علينا الفضائيات العربية بمشاهد مخزية لوزراء صهاينة يتصدرون الاجتماعات والندوات على أرض العرب. والصورة لا تقل قتامة في العراق حيث الاحتلال والتدمير وتنامي مشاريع التفتيت والتقسيم واليمن الموحد مهدّد بأن يكون اكثر من دولتين، وكذلك الحال في السودان والصومال..
هي باختصار حالة انهيارية كان طلب تأجيل التصويت على تقرير «غولدستون» التعبير القوي عنها والمؤشر على ان العرب يتجهون أكثر فأكثر الى التنكّر لقضاياهم والتنصّل من مسؤولياتهم، وهو ما يهددهم جميعا، ويجعلهم لقمة سائغة لقوى الهيمنة والتسلّط.
أما على المستوى الشعبي فإن الجماهير العربية المكبلة، كما اشرنا تدفعها مشاعر الغضب العفوي احيانا الى التعبير عن تنديدها بما تتعرض له الأمة من عدوان امبريالي وصهيوني مسنود بتواطؤ داخلي، وعن تضامنها مع قوى الممانعة والمقاومة. لكن موقفها لا يرقى بأي حال الى مستوى الفعل المنظم القادر على التأثير في مجريات الصراع وتحقيق التغيير المنشود.
وليست أحوال الاحزاب العربية والتنظيمات الشعبية عموما أفضل حالا، فهي ايضا غارقة في أزماتها الذاتية وانعدام فاعليتها وتأثيرها.
ويمكنني القول، بإيجاز، ان مكامن الخلل، التي اشار اليها السؤال تتمثل أساسا في التبعية العربية العمياء للقوى الخارجية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، وانغلاق معظم الأنظمة العربية على الداخل ما يجعلها في قطيعة حادة مع شعوبها. وهو ما يفسّر الاخفاق في التصدي للعدو الخارجي، والاخفاق في تحقيق التطلعات والأهداف الداخلية.
هذه الحالة الانهيارية كما وصفتموها هناك من يعزو أسبابها الى وجود مؤامرة على الأمة.. فهل تتفقون مع مثل هذا الطرح أم ان ما يحدث برأيكم هو «مسؤولية عربية» بالدرجة الاولى؟
المؤامرة موجودة منذ عقود، وقد تمثلت في احتلال الوطن العربي، ونهب ثروات العرب، وتكبيلهم واستنزافهم. وتجلت المؤامرة كأسطع ما يكون في استنبات الكيان الصهيوني كقاعدة عدوانية ارهابية، وكمؤامرة مجسدة دائمة على أرض فلسطين، فالمؤامرة ليست اذا من اختراع الخائفين او المهووسين، كما يعتقد البعض، ولكنها حقيقة معلنة وغير خافية الا على من لا يريد ان يراها.
يؤكد ذلك ان القوى الامبريالية لا تستطيع ان تعيش إلا بإيجاد واختراع قوّة عدوة تبرّر لها امام شعوبها سياسة الغطرسة والعدوان والوحشية، وانتهاك حقوق الانسان وخنق حرياته وإثقال كاهل مواطنيها بالضرائب من اجل توفير الأسلحة والعتاد اللازم لتنفيذ سياستها العدوانية..
وقد استمرّ عداء هذه القوى مع المعسكر الاشتراكي عقودا من السنين.
وبفضل قوة النظام الرأسمالي وأخطاء التطبيقات الاشتراكية ووجود عملاء داخليين تمكّن المعسكر الرأسمالي الامبريالي من الانتصار، وانهار المعسكر الاشتراكي. وبدأت القوى الامبريالية الغربية تبحث عن عدوّ جديد فاكتشفت انه موجود في العرب والمسلمين.
أما لماذا اختارتهم هدفا؟
فلعدة أسباب اولها الثروات الطبيعية الهائلة ولا سيما النفط العصب الأساسي للتكنولوجيا الغربية والحضارة الغربية عموما، ولأن العرب والمسلمين ايضا يمثلون قوّة ديمغرافية كبيرة تستطيع، في حالة التضامن والتنسيق، مواجهة كل المخططات والمشاريع العدوانية.
ولا ننسى أخيرا ما يمتلكه العرب والمسلمون من ثقافة يصعب طمسها وتفكيكها كما يملكون هوية متجذرة يستعصى اخضاعها وإركاعها وكما قلنا فقد تجلّت ذروة المؤامرة على العرب في زرع الكيان الصهيوني كعصا غليظة لفرض الشروط الامبريالية واخضاع العرب وأيضا كحاجز يمنع العرب من تحقيق الوحدة. والتنمية، وبالتالي يبقى وجودهم مرتهنا بالرضى الامبريالي عموما والمشيئة الأمريكية خصوصا.
بوصفكم مفكّرا قوميا... كيف تنظرون الى الإشكال والجدل القائم حول مقاربة القومية والدولة القطرية وأين ترون مصلحة الأمة وآفاق استنهاضها خاصة بعد فشل هاتين التجربتين في أكثر من مكان؟
يحيلني سؤالك بالضرورة الى مفهوم الأمة الشكل التاريخي المتقدم لوحدة البشر والمؤشرات الرئيسية للامة هي وحدة الروابط الاقتصادية والارض واللغة. فعلى هذه الارضية تنشأ وحدة الحياة الروحية والخصوصيات القومية للتكوين النفسي وللطبع وللثقافة وللتقاليد. وفي الاجتماع الاسلامي نلاحظ ان فكرة الأمة كانت سابقة على الدولة، وأن المسلمين وضعوا الجماعة الأمة منذ اللحظات الاولى فوق كل اعتبار او صارت كيانا مطلقا ليس موضع سؤال او إشكال. أما مفهوم الأمة بالمعنى الغربي الحديث فلا ينطبق على الواقع العربي، ذلك ان الوطن العربي يتألف من 22 دولة تشترك جميعها في الثقافة واللغة والدين ولشعبها (شعوبها) هوية تميزها عن غيرها لكن لا تضمها دولة واحدة.
أما الدولة فمفهوم حديث، ذلك ان ظاهرة الدولة تعود الى القرن 16م. أما العرب فلم يعرفوها الا بعد ثلاثة قرون اي في العهد الاستعماري الاوروبي، وقبل ذلك لم تستطع الدول الاسلامية المتعاقبة ان تدمج سكان الأقاليم التي سيطرت عليها في فضاء اجتماعي مشترك، ويوجد عند العرب حتى اليوم إلتباس بين مفهوم الدولة (التي تعني: الارض والناس وسلطة عليا تنظم العلاقة بين الارض والناس، والسيادة على ارضها) والسلطة فكلما وردت كلمة «دولة» انتقل مفهومها تقريبا الى «سلطة».
وفي ظل هذه الخصوصية العربية المتمثلة بوجود امة دون دولة هناك اتجاهان في النظر الى القومية. اتجاه يرى انها مفهوم ايديولوجي، وفي السياسة يعني الأمة، فضلا عن مصالحها القومية واتجاه آخر يرى أن القومية قوة اجتماعية مستقلة روّجت لها النخبة وتجاوبت معها الجماهير كمحدّد للهوية والواضح تاريخيا أن الحركة القومية، دولا وأحزابا وجماهير واجهت عدوا قويا شرسا، وأن الامبريالية والصهيونية مازالتا تريان فيها التهديد الأخطر لمصاحلها وهيمنتها بل واحتلالها للمنطقة.
كما أنّ هذه الحركة تواجه في ذات الوقت نظاما عربيا رسميا معاديا لها فإذا أضفنا إلى ذلك ما تعنيه هذه الحركة من قصور ذاتي في الفكر وفي التطبيق، ومن عجز عن استقطاب الجماهير وتنظيمها تبيّن لنا لماذا تعثرت هذه الحركة ومازالت بعيدة عن تحقيق أهدافها وغاياتها.
ومع ذلك أستطيع القول إن المستقبل هو للحركة القومية العربية وليس هذا من باب التمني بل نتيجة قراءة للواقع.
وممّا لا شك فيه أن الأمة العربية موجودة ولا يطعن في وجودها أو يُنكر أحد أنها مجزّأة إلى 22 دولة. كما أن إخفاقها حتى الآن في تحقيق وحدتها السياسية لا يعني بأي حال من الأحوال أنها غير موجودة كما يروّج لذلك أعداؤها ثم إن الأمة مسألة بديهية وحقيقة لا ينفيها وجود الدولة القطرية بل ولا يتناقض معها إلا إذا كانت هذه الدولة قطرية بمعنى الانعزال والعداء للتكامل العربي وهذا ينتمي إلى مواقف السلط والحكومات أكثر مما يعبّر عن حقيقة الدولة القطرية الموضوعية.
فمن هذه الناحية الموضوعية تكمن مصلحة الدولة القطرية في الوحدة العربية.
نعم المستقبل للحركة القومية العربية، لأن مصالح العرب، في مختلف أقطارهم تكمن في وحدتهم ولأن نجاحهم في مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد دولهم يتوقف على توحيد صفوفهم وتجميع طاقاتهم وإمكاناتهم.
وعندما تكون الوحدة العربية ضرورة موضوعية بهذا المعنى الحيوي فإن المستقبل سيكون لها ليس من دون نضال شاق وطويل وتضحيات كبيرة، وقدرة على تجاوز الأزمة الذاتية للحركة القومية ذلك أن هدفا بهذه العظمة وله عدد كبير من الأعداء الأقوياء خارجيا وداخليا لا يمكن أن يتحقق بالخطب والتمنيات فقط.
ضمن هذا السياق أي قيمة ومعنى للهوية في مواجهة تحديات الحداثة الغربية.. والوجه الاستعماري للعولمة؟
قبل الحديث عن قيمة الهوية وأهميتها في مواجهة تحديات الحداثة الغربية وبخاصة في نسختها الأمريكية الأخيرة أرى من الضروري أن نتعرّف أولا على هذه التعويذة الأمريكية التي ترفع للخلاص من قيود الجهل والتخلف في زمن لا يتجاوز تشغيل جهاز الكمبيوتر والاندماج في شبكة الانترنت أقصد العولمة.
العولمة نزعة تهدف إلى فرض الحضارة الغربية بنسقها الليبيرالي وقيمها المادية على البلدان الأخرى بمختلف أساليب الاستيعاب والقهر بالقروض والتصدير أو بالصواريخ والتدمير.
وإذا كانت الحداثة الأوروبية قد اختزلت أمريكيا في تحويل الإنسان إلى حيوان منتج ومستهلك، وبالتالي الحضارة الإنسانية إلى حالة علمية ومادية تفتقر إلى القيم الأخلاقية ووسائل ردع عدوان وهمجية الأسلحة المتطورة والصواريخ العابرة للقارات، ولجم شطط الذرّة واختناق البيئة، فإنها أي العولمة تعتمد على إزالة الحواجز بين الأسواق تلك الحواجز التي تفرضها المصالح الاقتصادية الوطنية.
صحيح أن البعد الاقتصادي يمثل أولوية في نزعة العولمة إلا أنها من أجل تحقيق هذا الهدف تسعى إلى تحويل العالم إلى سوق للبضائع الأمريكية واستمرار هذا الوضع، فقد اتخذت أبعادا أخرى سياسية واجتماعية وثقافية ألم يكتب «رسول» العولمة «فوكوياما» ما أسماه نهاية التاريخ ويعني بذلك انتصار الحضارة الغربية وفرضها على الجميع اقتصادا وثقافة ونمط عيش.
المشكلة في العولمة لا تكمن إذا في أنها تخلق تواصلا غير مسبوق بين البشر، وتزيد في توسيع ما هو مشترك بينهم فكل هذا يمكن أن يكون مفيدا بل هو قطعا مفيد للبشرية كل البشرية وإذا نظرنا إلى الإنجاز العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي ومدى ما يقدمه من فائدة للإنسان فإن العولمة ليست ظاهرة شيطانية بالمطلق كما يصورها البعض.
المشكلة وهي بالمناسبة ليست جديدة تماما، فقد عاناها الكثير من البشر منذ نشوء الحضارة الغربية، تكمن في النزعة الفوقية والاستعلائية التي تحملها العولمة في نسختها الغربية المتأمركة على كل ما هو وطني وثقافي خصوصي وهذا ما يضعها بالضرورة في صراع مع الهوية والهوية عادة ما تعبّر عن نفسها بأقوى ما يكون عندما تكون مهددة بل إنها تبلغ في الدفاع حدود الانغلاق والتعصب ورفض الآخر.
عندما تحاول العولمة فرض نموذج ثقافي أوحد على الشعوب فإنها بذلك تشنّ الحرب على ثقافات تلك الشعوب وهي ثقافات متنوعة وذات خصوصيات عقائدية وأخلاقية وفكرية مختلفة، وهذه حرب أكثر خطورة لأنها تغزو العقل والروح والوجدان.
وقيمة الهوية في حالة التصدي لهذه الحرب تبدو قيمة عالية وشديدة الأهمية لأنها تصبح رمزا للتمسك بالتنوع والاختلاف وترفض الخضوع والتنميط والتدجين.
إنّ تاريخنا العربي الإسلامي يحفل بكل ما هو تفاعل ثقافي خلاّق أنجب أعظم الآثار الفكرية والفنية وعندما تعرف العرب والمسلمون إلى الحضارة الغربية، رغم أنها جاءتهم من خلال الاستعمار، فقد تفاعلوا معها ومازالوا حتى الآن يتفاعلون مفرقين تماما بين ما هو إنساني مشترك فيها يمكنه المساعدة في نهوضهم وتقدمهم وبين ما هو عدائي يستهدف أرضهم وثرواتهم وثقافتهم وهويتهم.
وهذا هو شأنهم اليوم مع العولمة فليست الهوية العربية الإسلامية هي التي تشن حربا هجومية على العولمة ولا هي ترفض العولمة رفضا مطلقا أعمى ولكنها تنظر بعين التقييم النقدي إلى هذه العولمة وتميز فيها بين المفيد والضار وأمّا عندما تصبح العولمة وسيلة للهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية فإنّ هذه الهوية تتحول إلى سلاح حقيقي وفعّال للدفاع عن الوجود والاستقلال.
إنّ أصغر شعوب العالم وأقلها عددا لا بد أن تدافع عن أرضها وثقافتها في وجه الغزاة فكيف إذا كان المقصود العرب والمسلمين قوّة بشرية هائلة في عالمنا، ويمتلكون مكانا بارزا في التاريخ، ويطمحون للمشاركة في بناء مستقبل الإنسان والهوية بهذا المعنى قيمة كبرى وضمانة للمستقبل في مواجهة الوجه الامبريالي البشع للعولمة.
حمّلتم المسؤولية في معرض حديثكم لما أسميتموها التبعية العربية العمياء للقوى الخارجية بالوقوف وراء حالة الانهيار التي تشهدها الأمة... لكن أين الوعي العربي من كل هذا.. ثم ما مدى مسؤولية المثقف العربي عن هذا الوضع؟
إنّ حجم التحديات التي تعيشها الأمة العربية اليوم وعظمة المشروع القومي ترتبطان أشد الارتباط بدور الإنسان العربي الحر الواعي وهذا الدور قد صودر، للأسف إلى حد بعيد من طرف الأنظمة العربية وبعض الأحزاب السياسية صادرته لتستمد منه شرعية البقاء والاستمرار دون أن يكون لفعلها التأثير المطلوب في التصدي للتحديات وإنجاز الخطوات المنشودة على طريق تحقيق المشروع القومي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.