طالما سمعنا تَذمُّرَ الذين يجهلون اللغة العربية من صعوبة تعلم قواعدها، مثلما سمعنا تنويه الذين يتقنونها بسهولة تعلمها، وقد كان الحوار الذي يدور بين الفريقين شبيها بحوار الصم، لأن كل واحد منهما على صواب من وجهة نظره، إذ من البديهي أن الذين يجهلونها يقولون إنها صعبة معقدة دونها خرط القتاد، وأن الذين يتقنونها يقولون إنها سهلة مستساغة كشرب الماء الزلال، فيصدق في الطائفة الأولى قول صفي الدين الحلي: «وإنما الناس أعداء لما جهلوا» إن كانوا ممن يجهلونها. كما أن الطائفة الثانية يصدق فيهم قول الشاعر: «وعين الرضا عن كل عيب كليلة» إن كان هناك عيب. وقد استمر المتضلعون في اللغة وقواعدها يؤلفون الكتب النحوية بأسلوب تكديس القواعد حيث يتتبعون كل شاردة وواردة باصطلاحات قديمة يعسر على الأفهام استيعابها، وهذا كان شبه ضروري في زمن كانت الدراسة منصبة على علوم الوسائل، فالنحو وسيلة لدراسة القرآن والحديث وكلِّ ماله صلة بالشريعة والدين وبالأدب الذي كان من وسائل تلك الدراسات، أما في العصر الحاضر فقد أصبح الإنسان في حاجة إلى كثير من اللغات، إلى جانب العربية، يتمكن بواسطتها جميعا من دراسة العلوم الصحيحة من فيزياء وكيمياء وهندسة...لذلك انطلق المجددون من الطائفة الثانية إلى التسهيل والتيسير استجابة لمن رأى صعوبة تدريس قواعد العربية، فقاموا بتسهيل قواعد النحو العربي ليغروا القاصي والداني بتعلمها، ومن بين هؤلاء في العهد الأخير الدكتور يوسف السودا الذي ألف كتابا سعى فيه إلى تسهيل وتبسيط تلك القواعد، والذي رأيناه في مقالنا السابق يتحدث عن جهل مؤنس ابن عميد الأدب العربي طه حسين وليلى حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي للغة العربية، وسعيا منه إلى هذا التسهيل ألّف كتابا سماه «الأحرفية أو القواعد الجديدة في العربية»، ومهما يكن رأي الدارسين والنقاد في ما سعى إليه مؤلفه فإن موضوع صعوبة العربية أو سهولتها يحتاج إلى دراسة متأنية وحل جاد، ليس هنا مجاله، وقد كنت وعدت في حديثي السابق بالعودة إلى هذا الكتاب وإلى مؤلفه بالبحث والتقويم أوالتقييم لأني مؤمن بوجوب تسهيل قواعد اللغة العربية ليقبل على تعلمها أهلها من أمثال ابن طه حسين وحفيدة أحمد شوقي اللذين أشار إحسان عبد القدوس إلى جهلهما للعربية وزاد الطين بلة حيث قال إثر ذلك: (..ولماذا لا أستطيع، أنا مثلا، أن أربِّي في ولديَّ الذوق اللغوي العربي، وأن أملأ آذانهما بموسيقى أبي الأسود الدؤلي كما امتلأت بموسيقى اللغة الفرنسية...وتنتهي بي الحيرة إلى أن أسلِّم أمرها لله.) إنني ما زلت أعتقد أن كتاب الأحرفية لم يأخذ حظه من الدراسة الجادة التي قد تفضي إلى إيجاد حل لهذا الموضوع، ولعله يخرج إحسان عبد القدوس ويخرجنا جميعا من هذه الحيرة وأن لا نكتفي بتسليم أمرها إلى الله الذي يأمرنا بأن نعمل حين قال:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وقال: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.) وأعود إلى آراء النقاد في كتاب الأحرفية فقد اطلعت، إثر صدوره، على كتاب كامل للدكتور أنيس فريحة انتقده فيه انتقادا رصينا بنَّاءً يمكِّن العاملين، على تسهيل قواعد النحو، من الوصول إلى حل لهذا المشكل الذي لم يجد له الساعون إلى التسهيل حلا، ولعله أحد كتابيه: «نحو عربية ميسرة» أو «تبسيط قواعد اللغة العربية»، فقد قرأته في أوائل الستينيات من القرن الماضي. لقد سعى يوسف السودا جادا جاهدا لتسهيل قواعد العربية ولكن هذا المشروع لم تقع متابعته ولم أعد أسمع عنه ولا عن مؤلفه شيئا، فلماذا لا يعود إليه المهتمون باختصار وتسهيل قواعد النحو العربي ليواصلوا ما وصل إليه ويعملوا على شاكلته؟. عندما قرأت كتاب أنيس فريحة في نقد الأحرفية أذكر أني كنت متفقا مع الأول في كثير من جزئيات التسهيل وكذلك في كثير من جزئيات مناقشة صاحب الكتاب الثاني بداية من عنوان الكتاب الأحرفية، لأن صاحبه علل هذه التسمية بقوله: (...كل اللغات اعتمدت كلمة «غراماطيق» وهي تعني كل مؤلَّفٍ موضوعه «قواعد العربية» والكلمة يونانية مشتقة من كلمة «غراما» ومعناها «الحروف» والمقصود «علم الحروف» باعتبار أن (الكلمة) مركبة من (حروف) وأن القواعد إنْ هي، بوجه الإجمال، إلا علم (الكلمات) في ما يطرأ عليها من تبديل وتعديل في (حروفها). فرأيت من الموافق أن يكون - كما هي الحال في كل اللغات - كلمة واحدة متفق عليها تفيد معنى «غراماطيق»، وقد مرّ في الخاطر كلمات كثيرة منها: (صرنحية) وهي إدغام الكلمتين:(صرف ونحو) ومنها (أجرومية) وهي كلمة سبق استعمالها، وأظنها تعريب الكلمة اليونانية (غراما أو جراما)، ولما كان لا يُبتدأ في العربية، بالساكن، صُدِّرت كلمة (جراما) بحرف الألف، ثم أُعطيت صيغة عربية فصارت (أجرومية). بَيْدَ أنه إذا عُرِّبت كلمة (جراما) بكلمة (أحرف) وقيل: (أحرفية)، تكون الكلمة أخفَّ على السمع من (أجرومية)، لذلك اخترت (أحرفية)، وإذا عُقد المؤتمر اللغوي الذي اقترحته واعتمد كلمة أخرى أحسن منها، اعتمدتها بعده. ولكن الأستاذ يوسف السودا قد كان واهما حين رأى أن (الأجرومية) مشتقة من (جراما) أو «غراماطيق» اليونانية، لأن العرب لم يأخذوا هذه الكلمة من اليونانية فهي نسبة لصاحب ذلك المتن الصغير في النحو العربي المسمَّى: محمد بن محمد بن داود (ابن آجروم) الصنهاجي، الذي ولد سنة 672 ه 1273م وتوفي 723ه 1327م بفاس من المغرب الأقصى. و(آجُرّوم) بمد الهمزة ، وليس بهمزة مفتوحة، وبضم الجيم والراء المضاعفة. وإذن فلا نصيب من الصحة، لما اعتمد عليه يوسف السودا في هذه التسمية لكتابه ب(الأحرفية) على وزن (الأجرومية) التي ظنها مشتقة من ال(غراماطيق). وعلى كل فلا مشاحَّة في الأسماء وهذا الوهم الذي تسبب في هذا الخطإ لا يفسد مشروع صاحبه في تسهيل النحو العربي ولا يمنعنا من مواصلة البحث عن سبل تيسير قواعد العربية لنسهلها على أمثال: مؤنس ابن طه حسين وليلى بنت أحمد شوقي وأبناء إحسان عبد القدوس الذي أقر بأن أبناءه أيضا يقرؤون ويفهمون اللغة الفرنسية أكثر مما يقرؤون ويفهمون اللغة العربية. إن موضوع صعوبة العربية أو سهولتها يحتاج إلى إعادة النظر والتفكير لإيجاد حل جذري يسهل دراسته على من يتعلمونها من أهلها ومن الغرباء عنها ليُقبلوا على قراءتها وكتابتها، وهذا أمر يستحق من الساهرين على حظوظ التربية والتعليم والثقافة وقفة جادة تتناسب مع التدريس بأسلوب العصر دون أن نقطع الصلة بكتبنا القديمة التي تبحر أصحابها في وضع قواعدها، معتقدا أن مؤنس بن طه حسين وليلى حفيدة أحمد شوقي وأبناء إحسان عبد القدوس لا يجهلون لغة الضاد لصعوبتها فقد تعلمها آباؤهم وأجدادهم وتعلمناها مثلهم ولم نجد فيها تلك الصعوبة التي زعم إحسان عبد القدوس أنها حالت بينهم وبين تعلمها، ولكنهم اختصوا في غيرها فبرعوا فيها، وليس من الممكن أن يتقن الإنسان مجموعة من اللغات في وقت واحد وفي مستوى رفيع واحد. وأخيرا فإني لا أحب الحديث عن الغائب لذلك قد أصبح لزاما علي أن أعرض بعض ما سعى إليه يوسف السودا في كتابه الأحرفية من تسهيل لقواعد النحو العربي لنرى مدى توفيقه في ما سعى إليه فأرجو أن يكون ذلك في لقائنا القادم.