(حسب مقولة ابن خلدون والذي كان يسعى الى سماع الرأي من لدن شيخ فقيه ثم يسعى الى آخر يسميه القنديل الثاني ليتلقى رأيا موافقا أو مخالفا) قنديلنا اليوم الدكتور شكري المبخوت. عميد كلية الآداب والفنون والانسانيات، سيحدثنا عن جمالية الألفة في النص ومتقبله، عن المسعدي وطه حسين، عن المعنى المحال، عن حيز النفي ،عن الجامعة، وعلاقة الجامعة بالوسط الأدبي. . حوار: رشا التونسي عند اللقاء.. أول ما لاحظت هالة تشع منه من اللطف والهدوء، ثم حول فنجانين قهوة ينطلق الحوار فيبدأ بريق الكلمات وثراء الأفكار. رغم صغر سنه نسبيا بالنسبة لعميد كلية الآداب والعلوم الانسانية لنيابتين عن طريق الانتخابات، هو أستاذ وباحث وناقد، ليس كاتبا عاديا بل منظرا في مجال النقد الأدبي، ويعتبر مرجعا يستند الى أعماله، وآفاق منهج فكري ومنطق علمي تجريبي على مستوى المفاهيم لجهد نظري ونقدي، يطرح أفكارا ومقولات بحكمة ودراية الشيوخ وثقة وحيوية الشباب. مثقف عميق لا يرفض القواعد الأصولية للغة العربية لكنها ليست معطى قسري لا يمكن تطويره، بل يؤكد أنه لا بد من تطويرها بوضع مصطلحات مستحدثة تتناسق مع التطور المستمر لتجد مكانها الانساني بين الأمم. وذلك ممكن فاللغة العربية تمتلك خصائص اللغة المكتوبة القادرة على أن تؤدي جميع الأغراض التي يريدها الناطقون بها. لكن لا بد من دراستها دراسة لسانية حديثة حتى تكون لها مكانة في الشبكة الدولية. يطرح أفكاره ببساطة، الموضوعية في طرحه للعديد من المسائل لا تعني الحياد. حين يتكلم عن الجامعة نجد أن تفكيره يتماهى مع سلوكه اليومي في الحياة. مستقيم ومستقل كيف بدأت الميولات الأدبية؟ كان التكوين الأساسي في البكالوريا علمي، لكن حبي للمطالعة والفلسفة وميولاتي الأدبية كانت أقوى من ميولاتي العلمية، وكان للجانب الفلسفي الفكري وقراءاتي الماركسية تأثير على توجهي نحو القراءات الفلسفية والمجالات الفنية. لم يكن الانتماء الى الماركسية ايديولوجيا سياسية فقط، بل حالة ثقافية وانتماء فكريا وحداثيا. افتتاح على تيارات فكرية أممية. تيار وريث الحركات السير يالية، الحروفية، الحيجلية، الفوضوية، جميع الحركات التجديدية في الفكر السياسي، حركية فكرية جمالية، ثم كان هناك حركات خارج السنة الماركسية : اللينينية، تروتسكي، المجالسية، خلطة عجيبة يجمع بينها الانشقاق ورفض الأنساق المغلقة، ثم كان تأثير مدرسة فرنكفورت التي تحمل الاتجاهات الجمالية، ميراث ماي 68 الذي عشت آثاره. الأدباء مثل ادقار موران، بارت، فوكو، دولوز. ... كان لكل ذلك تأثير مهم على اختياراتي الأدبية. لماذا اخترت اللغة العربية؟ في المدرسة العليا، كنت أود دراسة الفلسفة، لكنني تحولت الى العربية لأن صديقي الحميم درس العربية ففعلت مثله. لكنني لم أندم، أحب الأساليب الجميلة في كل اللغات، الكتابات التي تكتب بشغف وصدق أسلوب. لكن بحكم المهنة، أصبحت أحترم من يكتب بالعربية ويساهم في تطوير اللغة من ناحية المفاهيم والمصطلحات والتصورات الحديثة. فحب العربية ليس مسألة وجدانية وحسب. انما هو أيضا مسألة واجب ازاء الثقافة العربية التي يجب أن تتجدد وترتقي الى مصاف الرهانات الثقافية والعلمية الكونية الكبرى. من باب الوعي أن العربية ليست أقل من اللغات السائدة التي يكتبها العلم الحديث. وينبغي الاسهام في جعلها لغة تقود الفكر الحديث والعلم الحديث. هل يمكن تحديث اللغة رغم جمودها؟ لا يمكن أن تكون اللغات جامدة، ما دامت تملك خصائص اللغة المكتوبة التي يمكن تعلمها وتعليمها، فهي قادرة على أن تؤدي جميع الأغراض التي يريدها الناطقون بها، وكثيرا ما يقال ان العربية متخلفة وقاصرة عن أن تكون لغة العلم الحديث، لكن هذه النظرة تكتفي بأضعف جانب في اللغة، وهو الجانب المعجمي وجانب المصطلحات، مع تغاضي من يتهمون اللغة عن حقيقة تطورها تطورا كبيرا من الناحية المعجمية، فهي لغة تقبل استعمال المصطلحات معربة، وأحيانا دون تطويعها لخصائص الصرف والاشتقاقية العربية. والهندسة الداخلية للغة العربية كما صاغها النحاة العرب. هندسة استثنائية بما فيها من انتظام وتماسك في كل المستويات، اشتقاقية، تصريفية، اعرابية، اذا الأساس النحوي المتين يسمح للعربية بأن تؤدي الوظائف التي نطلبها منها. شريطة أن نكون قادرين على استعمالها. والمثل على ذلك وسائل الاعلام الجادة المرئية التي تؤدي العربية بسلاسة كبيرة رغم سرعة وآنية الخبر. وشخصيا مارست ترجمة نصوص تبدو غير قابلة لعربية فصيحة سلسة، لكن النتيجة كانت ايجابية. لكن للعربية اليوم مشاكل أخرى؟ مشاكل اللغة هي مشاكل الايديولوجيا المطروحة فيما يخص علاقتها باللهجات، أو باللغات الأجنبية، أو لغات الأقليات مثل الايمازيغية والكردية، فالقضايا في هذا المجال ما زالت تطرح بنبرة ايديولوجيا، ليس لها من العلم الخط الكافي لمعالجة مسائل الثنائية اللغوية، أو الازدواجية اللغوية والتعدد اللغوي بصفة عامة. هل يمكن للترجمة أن تكون وفية لنص بلغة أخرى؟ لا يقدر على الترجمة الا من يتملك اضافة الى اللسانيات معرفة في المجال المترجم الذي يجتهد فيه. ومشكلة الترجمة أنه يعهد بها في حالات كثيرة الى غير أهل الاختصاص، لكن الأمور بدأت تتغير ايجابيا فيما تنشره «المنظمة العربية للترجمة» أو «المركز الوطني للترجمة» في تونس، وترجمات «سلسلة عالم المعرفة» اضافة الى الترجمات التي تنشر في عديد الجامعات العربية.وهذه الترجمات تدل على أن العربية قادرة على أن تكون لغة الأدب والثقافة والعلم، فقط ينبغي أن يتوفر المترجم العارف الحاذق. والخشية الآن أن اهتمام مؤسسات ثقافية علمية متعددة بالترجمة، قد يؤدي الى نتائج عكسية. لأن الطلب كبير منذ تقرير سنة التنمية البشرية، الذي نبه الى ضعف ما يترجمه العرب كميا، فأطلقت مشاريع كثيرة، لكن لم يقع الاهتمام حتى في تونس بتكوين المترجمين الأكفاء، وجل من يترجم اليوم ترجمات جيدة هم من الجامعيين الذين لم يتكونوا ليكونوا مترجمين بهذا الفرع العلمي والثقافي أو ذاك، هل هناك عوائق فيما يخص حداثة اللغة العربية؟ مشاكل اللغة العربية تعود الى غياب السياسة اللغوية، وعدم الوعي الكافي بما تفرضه التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصال من مواصفات جديدة في التعامل مع اللغة. أولا : اللغة اليوم أصبحت عمادا من أعمدة مجتمع المعرفة، والاقتصاد اللامادي، أي اقتصاد الذكاء. ومن أعمدة ما يسمى المحتوى الرقمي. فمجتمع المعلومات يرتكز على التلاحم بين اللغة والتكنولوجيا والاقتصاد، لأن انتاج المعلومة تمثل فيه اللغة تقريبا 50 بالمائة. بما أن الحلول التكنولوجية موجودة والمردود الاقتصادي هو الذي يمثل وجه استثمار العلاقة بين اللغة والتكنولوجيا. من ذلك صناعة البرمجيات والتطبيقات الاعلامية في العالم اليوم تمثل قطاعا واعدا، ومصدرا من مصادر الثروة الجديدة. لكن الوضع في العالم العربي أقل ما يقال عنه إنه بائس. ويتكبد خسائر اقتصادية وتجارية لا تتصور بسبب اهمال السياسات اللغوية للغة العربية. ما زال الباحثون العرب عموما يعيشون على وصف النحاة العرب للعربية، ولم يتسلحوا بالمناهج والمفاهيم والتصورات اللسانية الحديثة، لاعادة وصف العربية بمقتضى التطور التكنولوجي العالمي اليوم. فمن ابسط الصعوبات أنه لا يوجد تقييس للحرف العربي. ولا توجد برمجيات موثوق بها، ونسبة الخطإ فيها محدودة للتدقيق الاملائي والاصلاح النحوي، والمعالجة الآلية للصرفي والنحوي بشكل الكلمات والجمل... وهي مجالات بدونها لا يمكن للعربية أن تواكب ثورة المعلومات. وأن يكون لها موقع في شبكة الويب. معنى هذا أن مستقبل العربية رهين سياسة لغوية قومية لتكوين لسانيين من طراز رفيع، حتى لا تظل الجامعات تقتات من تصورات لغوية متخلفة، دون عبقرية النحاة العرب. وهذا دور الدول ووزارات التعليم العالي التي لم تع بعد أن تكوين مهندسين في الاعلامية بدون لسانيين حديثين لن يحل أي مشكلة من المشاكل التي ذكرناها حول منزلة العربية، وهو اقتصاد الذكاء. فهذا التكوين جزء من تكوين الكفاءات البشرية اللازمة لتطوير العربية. ورهين أيضا الاستثمار، سواء على مستوى وطني أو اقليمي في صناعة المحتويات الرقمية، لأن هناك تفاعلا بين انتاج المحتويات الرقمية، التعليمية، الثقافية، الترفيهية، والصحية. .. والأمنية. والربح الاقتصادي، وتطوير العربية بتطويعها لمنطق الكتابة الرقمية. اذا كان هذا الاهمال يؤدي الى خسائر حقيقية للغة العربية فأين دورك وأمثالك؟ المسألة ليست فردية، لأن حجم مثل هذا العمل يتطلب ضبط سياسة دول وانشاء مؤسسات قوية فاعلة، ومنحها التحويلات الضرورية لأداء هذه المهام الكبرى. حينئذ تندرج جهود الأفراد ضمن مشروع كبير سيتحمس له بلا شك أنا وأمثالي مثلما تحمس النحاة الأوائل لصنع اللغة العربية في بداية وضع النحو. لنتحدث الآن عن كتاباتك، متى كانت وما هي البدايات؟ البدايات كانت مع الكتابات الصحافية في منابر مختلفة مثل الصباح، حقائق، الموقف، والرأي. ثم كانت الكتابات الجدية المرتبطة بالبحث والتدريس الجامعي. وبدأت بالترجمة في الجامعة مع الزميلة رجاء بن سلامة. سنة 87 كتبت بحثا عن المسعدي انطلاقا من نظرية التلقي وسيوسيولوجيا الأدب. حول « تقبل المدرسة للنص الأدبي» وانطلقت من موقف سياسي مفاده أن المسعدي وضع في برامج التدريس لموقعه السياسي. أردت أن أبين أن المدرسة باعتبارها جهازا من أجهزة الدولة فرضت هذا الكتاب لتشكيل وعي مطابق للايديولوجيا السائدة. لكن قيمة هذا البحث أنه علمني أنه يحق لنا أن نفترض ما نشاء وأن نتصور ما نريد، لكن أخلاقيات الممارسة العلمية تضعنا أمام واجب قول الحقيقة التي نتوصل اليها مهما كانت قيمتها. والحقيقة التي قادني اليها البحث، أنني ظلمت المسعدي، وحنطته، وقضيت على طاقة النفي داخل نصه البديع. فهو نص متمرد حمال أوجه كما يقال. يتضمن تصورات عن الوجود والانسان خطيرة، لكن الخطاب المدرسي باعتباره خطاب مؤسسة رسمية، استطاع أن يقلم أظافر هذا النص المتوحش، واكتشفت بالخصوص أن الأدب حين يدرس لا يظل أدبا، وهو مصير النصوص الكبرى التي اقترحت جماليات لا تمتثل للايديولوجيات السائدة والتصورات الثقافية المهيمنة. هل تأخذ هذا بعين الاعتبار عند مشاركتك في اختيار نصوص الكتب المدرسية؟ في صناعة الكتب المدرسية، توجد تقنيات ومراحل، فالكتاب المدرسي يترجم برامج موضوعة دون استشارة صانعي الكتاب المدرسي. هذه البرامج تخضع الى أهداف عامة وأخرى خصوصية، ينبغي أن تساهم النصوص في تجسيدها، كما أن شبكة اختيار النصوص لا تنطلق من المدونات النصية. بل تنطلق من مفاهيم مثل المحور، وهي القضية التي ينبغي اقدار المتعلم على فهمها وتحليلها. ومثل أنماط النصوص والتقنيات التي ينبغي أن تتوفر في هذه النصوص : «سرد، وصف، حجاج، حوار..» مع مراعاة المستويات اللغوية المختلفة، والمعجم الحاصل عند التلميذ، والمعجم المطلوب اثراؤه، من هذه الزاوية لا يهم كاتب النص في حد ذاته، بل المهم العثور على نصوص تجسد الأهداف وتستجيب لشبكة المعايير ذات المداخل المتعددة. هل الأدب التونسي يوفر مثل هذه النصوص؟ الذي يتدخل في الاختيار هو مدى اطلاع واضعي الكتاب المدرسي على المدونة السردية أو الشعرية أو المسرحية التونسية. ومدى تذوقهم لمنجزات هذه المدونة. هل كل ما يوجد في الكتب المدرسية يستحق أن يوجد ؟ من المؤسف أنه توجد نصوص تونسية وغير تونسية ليست جديرة بأن يطلع عليها التلميذ حسب المعايير المذكورة. ثم ان الكتاب المدرسي لا يمكنه أن يستوعب جميع الكتاب التونسيين لأن ذلك مستحيل عمليا. هل يمكن الكتاب أن يستوعب الكتابات التونسية المعاصرة والعصرية ككتابات حسن بن عثمان مثلا؟ بعض الكتابات لا يمكن احتواؤها مدرسيا مثل كتابات حسن بن عثمان والأزهر الصحراوي وغيرهم، وهذا لا يعني أنها كتابات غير مهمة، بل بالعكس ربما يتعذر ذلك لأن طاقتها على النفي ومقترحاتها الجمالية تفيض عن حدود مؤسسة الكتاب المدرسي. كتابك «جمالية الألفة» حاولت فيه الاجابة عن: لماذا لا يقول المبدع ما يفهم ؟ لم لا يفهم القراء ما يقال؟ طرحت بيني وبين نفسي السؤال : كيف نخلص حداثتنا الشعرية بأصواتها القوية من أصوات الأسلاف والقدماء؟ بناء على أن الشعر الحديث هو الذي يقول وجودنا وآتينا، لكنه يتهم باللبس والغموض، فتتعطل وظيفته الجمالية والثقافية في تغيير الذائقة وتخليصها من الشعرية القديمة، وجمالية الألفة تحديدا تعني أن السنة الأدبية المترسخة في الوجدان والتي أثثتها النصوص الكبرى، وصلت الى انشاء ضرب من الاستعداد لدى المتقبل العربي ليأنس بالمألوف المعهود بدل أن يغامر مع النص الشعري ليستكشف آفاقا أخرى جمالية وثقافية تخرجه من فضاء الطمأنينة المغلق، ليدخل فضاء القلق والاستكشاف، أي فضاء الحداثة المتفتح، والواقع أنني كنت أتناول شوقي الى التحديث والتجديد من خلال التصورات التقنية النقدية عن الشعر. كتبت مقالة مطولة عن «المعنى المحال» لايجاد توازن بين نظرتك للنقد العربي القديم والموقف من إعادة قراءة التراث النقدي؟ صدرت مقالة «المعنى المحال» سنة 2008. لكنني كتبتها سنة 1992. حاولت أن أوجد توازنا في نظرتي الى النقد العربي القديم، بين هذا الموقف الذي ذكرته آنفا، وموقف يسمح لنا باعادة قراءة التراث النقدي، وحمله على محامل جديدة جعلت النقاد العرب القدامى على وعي بما تضمنته اللغة عند اشتغالها في النصوص الشعرية من امكانات مرعبة يصارعها الشاعر لينشئ قولا يناقض المألوف. وينزع الى قول محال. فهو قول مستحيل بدا لي أن النقاد العرب كانوا على وعي به، لكن من باب ما لا يوصف بالمفهوم والمصطلح. ولكنه «يطلب فلا يدرك» بمعنى أنه قول يتوق الى أن يسمي الوجود الغامض الملتبس المترجرج، ولكنه يخفق في قوله، لأنه يهدد التوازن في الثقافات الكلاسيكية جميعا بين حدود العقل وحضرة الخيال الذي يفضي الى المحال. للحوار بقية مع سيرة الغائب وطه حسين والبحوث اللسانية و الترجمة والعلاقة الجدلية بين الجامعة والوسط الأدبي. .