إن أشد ما يضني قلبي ويملأ نفسي أسفا ومرارة عند زيارتي للمقابر هو الوقوف على القبور الصغيرة... رسوم ضئيلة.. معالم لا تكاد تبيّن ولكنها قوية التأثير وبليغة التعبير، اذ تحدث في الصدر غصّة نوح وتشرع أمام الخاطر فرصة بوح. إنها حمأة الإفضاء بأقسى الحسرة على ينابيع من المعاني اللطيفة التي لا تكاد تتدفق حتى تغور أو أزاهير الحياة التي ما إن تبرعم حتى تذوي كالنور يشعّ فتلتهمه العتمة. وكيف لا نأسى على فقدان الكيان الذي يتضاءل فيه إلى حدّ بعيد الفارق بين الظاهر والباطن، بين الشكل والجوهر، فإذا هو من أجلى صور التناغم وأحلى ملامح الانسجام... وجوه وديعة حالمة أبدا تفيض بشرا وسلاما، هي مثال للنضارة، وألق الحياة وهي آية للحسن والبهاء. هذه العيون الصغيرة لا تفصح إلا عن صدق وبراءة... نظرة تلمح فيها منتهى اللطف.. فلا معنى إلا الطهر.. نظرة غرّة براء من كل دنس.. متعالية دائما عن كل غاية، وإن كانت فبسيطة متاحة وسهلة مبذولة. فإن رنت إليك فإنها تشغلك شغلا وتذلل فيك ما اصطنعت من كبر او صرامة او حزم، وتحرّك في أقاصي نفسك كوامن من المشاعر الرقيقة.. فأنت منها في افتتان وانخطاف، ثم ما أظنك تجد امارة على الصفاء مثل ضحكة طفل جذلى.. حالة مدهشة يعيى الفكر عن تأويلها مهما جهد، فليس لك إلا أن تحسّها... تنعم بها ولا تفقهها... سرّ مغر وضرب من الإلغاز لذيذ. وكيف لا تولع بالاسنان الحليبية، رقة ودقة... صفاء وبهاء.. برد والله.. كريستال ناصع لامع أخّاذ.. بياض نقيّ نديّ كنداء الحبيب، ونفس عبق بارد كراحة الضمير.. نظم خلاّب فاتن فلا نشاز ولا فلول، نظم يشعرك بروعة التماسك التلقائي. أليست هي منية كل ثغر يهفو الى بسمة ساحرة؟ ولقصر عمرها تبقى عزيزة نفيسة كلذيذ الاحلام. يا لروعة ما يصدر عن هذه الأفواه من الملفوظات والأصوات: تلعثم معجب أو كركرة رقيقة او تحويلات طريفة لما نتداوله من الألفاظ هي نبع من الظرف والنكات لا ينضب.. وحسبك منها ملفوظان: بابا... ماما.. نداء رفيق يهدهد وجدانك وخيط تستدلّ به في يسر وعفوية على صميم الوجود وجوهر الخلود. ولتتأمل طفلا مقبلا على لعبته في غفلة عن نصب الدنيا ومشاقها منشغلا منتشيا انتشاء عابد في غمرة صلاته، لحظة مفارقة تماما لما تكلفه من ألوان الترفيه والتنشيط والتسلية... فرح بملء الروح... حبور حقيقي يغريك ويؤجج فيك الحنين عارما الى البدء مجددا ويدغدغ في أعماقك ما هجع من نزوع الى المعابثة والمرح. وأنت تنظر الى طفل يرتسم امامك النموذج الانساني «في احسن تقويم» ثم يطالعك في عمق تأملك شاهد فريد للضعف البنّاء القوي والهشاشة الخلاقة. فيا للطف الاطراف الصغيرة! هل تحسّست اصابع طفل؟ هل عبثت بشعرك أنامله؟ هل طوّقت عنقك ذراعاه؟ وهل مرّت على وجنتيك شفتاه؟ إنه الجسم ينبض بتمكّن، يتحرّك دون تحفظ او اشفاق.. حركاته تنمّ عن تمام العافية.. صورة لانطلاق الحيّ يزداد قوة ومهارة في كل حين واكتمال الذات غير العابئة بسطوة الزمن وثقله... الذات التي تحيا صفو الأيام متنعّمة بأمن البدايات ومتطلعة الى آفاق من الآمال الوضيئة.. ولكن.. وا أسفاه! كل ذلك تطمسه يد المنون في منطق عابث وصلافة مخيفة مرعبة وقسوة غاشمة لا تلين. «فما للمنية لا ترقّ على الحياة النائحة». ولكن يعظم المصاب ويجلّ الخطب اذا غدت المنيّة رمية من يد آثمة غادرة تخنق أبلغ الدعاة الصامتين الى الحق والخير والجمال.. يد تغتال سعادة العالم ببرود الآلة الصماء.. يد تقتل عنوة بوحشية أخرى مغايرة للتطبع الحيواني هي الوحشية «الواعية»... قتل بعد ائتمار وإضمار.. قتل يجذم ألطف وشيجة تلمّ شتات المجتمع الانساني ويفسّخ ملمحا من ملامح التشابه بين الناس في كل أصقاع الدنيا. ونقف جميعا في بهتة بلهاء عجزا عن درء الردى عن «تلك الكائنات المتشابهة في كل بقاع العالم».. نقف مفتقرين لكل قدرة «وأعمارها في يد الطاغية».. نقف صابرين صبرا ذليلا صاغرا تمزّقنا الآلام تمزيقا كلما فجعنا الجلاّْدون بأفانين العسف والويل قتلا وتشويها وتجويعا وتعذيبا وتشريدا واستغلالا واستعبادا وامتهانا... فآه.. يا أطفال غزّة.. كم كنتم غرباء كالحق.. وحيدين في العراء على صلبان الصمت... حين يشتعل ليلكم البريء تنطفئ اعماركم ويتأسف الموت.. ومن الموت الناقع الى الواقع الفاجع... واقع ملايين الأطفال الذين نهبت طفولتهم وصودرت اعمارهم فتلاشت أمانيهم وتحلل مستقبلهم... والعالم قلبه متصلّب وضميره أغلف، فلا تخزه صرخة مولو د تضعه أمه في معبر حدودي او طفل يحتضنه الشارع بكل شروره او طفل تسرق نضارة ساعديه او طفل يُستقوى على ضعفه وتغتصب براءته او طفل تطأه الخصاصة في أيام او طفل يُزجّ به في خط النار يجيّش في ميليشيات العار.. عار وعار نتدثّر به ولا نستنكف منه فتتناسل حلقاته مسلسل ويلاته.. وتنفرط دررنا وتنفطر أكبادنا وتنطفئ الدنيا.. فأي عزاء لنا إزاء هذه الفواجع والأيدي التي تحترف الاجرام مازالت مشهرة في شهيّة عفنة وغطرسة ظالمة؟