بقلم: عبد الواحد براهم في مثل هذا الشهر منذ سنتين انسحب كاتب مبدع وخصب هو مصطفى الفارسي «تاركا الحصان وحيدا» كما قال محمود درويش المبدع الذي ودّع حصانه هو أيضا. تركنا وغادر ميادين عديدة كان له فيها صولات وجولات كالسينما والرسم والمسرح والقصّة والرواية والنقد والشعر. لكن أوسع فتوحاته صدى هي مولفاته القصصية والروائية اما بسبب ادراج بعضها في مناهج المطالعة المدرسية وإما لأنها تناولتها الدراسات النقدية بالتحليل والتمحيص كما اهتمّ المترجمون بنقل بعضها إلى اللغة الفرنسية. قد يكون لما نالته أعمال أديبنا الكبير السردية من اهتمام في حجب بقية أعماله الابداعية الأخرى وأهمها المسرح وقد أنتج فيه أعمالا هامة يلي ذلك المقالات والرسم والسينما والشعر» مما ستطرحه للبحث والدراسة ندوات «نادي مصطفى الفارسي للابداع» المقرر انعقادها كل سنة بمناسبة ذكراه. فإذا كان إبداع الفارسي التشكيلي أو السينمائي قد ظهر في المعارض أو على الشاشة وإذا كانت مسرحياته مثلت ثم صدرت في كتب وبذلك نالت قدرا من الانتصار» ولو أقلّ من السرديات «فإن إبداعه الشعري لم ينل الحظوة ذاتها ولم يعرف الفارسي بأنه شاعر إلا في دوائر ضيّقة محدودة والأمر يعود في نظري إلى سببين: أولهما ان شاعرنا كان مقلا «لا توحي إليه الشعر إلا حالات التوتر القصوى» وليس ذلك شأنه عند كتابة القصة أو المسرحية أو الرواية إذ لا بدّ في هذه من أعمال فكر وإمعان نظر ثم اتخاذ موقف. ولنا أن نتبيّن الفرق بين المدى الزمني الذي استغرقته الكتابات السردية والمسرحية وهو مدى رافقه طيلة حياته بصورة شبه متواصلة وبين فترات الابداع الشعري وكانت متقطعة متباعدة وارتبطت ولو بصورة غير مباشرة بأحداث أو فترات معيّنة ثم توقفت في وقت مبكر نسبيا. السبب الثاني هو تناوله الشعر باللغة الفرنسية فحدّ هذا من انتشاره وحصره في نخبة من يجيدونها ثم حتى إن نشر ذلك الشعر أو القي في محفل فقد تمّ ذلك في صحف أجنبية أو مهرجانات أوروبية (قصيدة «أمس.. الغد» نشرت في لينوفيل ليتيرار 1974 وقصيدة «قسمات ممزقة» ألقيت في برلين عام 1981 وقصيدة «أن تحيا» ألقيت في مهرجان ستروغا بيوغسلافيا عام 1989). قد يحدث أن يترجم كاتبنا احدى قصائده إلى العربية لغرض ما كما حصل مع قصيدة «أن تحيا» ربما لتنشر في مجلة تونسية لكننا لم نقم بالرصدالكافي للتأكد من الأمر، وإنما بدا لنا بعد مقارنة النصّ العربي بالنص الفرنسي ان الأول منقول عن الثاني، وقد يكون الدافع إلى تعريب هذا القصيد بالذات هو رغبة الشاعر في إبراز هويته الوطنية في مهرجان «ستروغا» العالمي، والتميز عن الشعراء المساهمين في الدائرة الفرنكوفونية. في ما اطلعنا عليه من شعر مصطفى الفارسي ملمحان بارزان قد يتعمّق في توضيحهما باحث من ذوي الاختصاص: أولهما وأقدمهما تاريخيا يظهر في القصائد المكتوبة عقب الاستقلال مباشرة والممكن نعتها تجاوزا بالقصائد الملتزمة، وفيها حث مباشر على إيقاظ ضمير المثقف المتعالي، ينظر من برجه العاجي إلى الظالم فلا يردعه، ويشاهد مظاهر التخلف فيكتفي بالكتابة عنها في الصحف. وقد عربت مقطعا من قصيدة «الأمس.. الغد» لأظهر فيه كيف عبّر الشاعر عن هذه المعاني: أيها المازوشي الملتدّ بالدّاء يا أنا الراضي بأصناف الشقاء أهذي، وأحلم بالسراب أغرق عاري في كأس الشراب أقتل وقتي.. أصغي لصوتي أرسم على وجهي غبيّ البسمات عشيت عيناي وأنا أعبر الدّنيا كان لا شيء يعنيني غير أن أكتب بضع كلمات الملمح الثاني بدأ يظهر في قصائد الفارسي المكتوبة في الثمانينات ناضحا بقلق وجودي، وبحيرة الأنا وتقلقلها بين الأمل والقنوط بين التسامي والسقوط في «الزيف الكذوب» حسب عبارته فجاءت قصائد تلك الحقبة المفصلية في تاريخ تونس المعاصر حبلا مشدودا مشى الشاعر فوقه بثوبين وسحنتين ورؤيتين، كما نرى ذلك في المقطع التالي من قصيدة «قسمات ممزّقة». يا أنت قل لي يا أنا يا صنو ذاتي المفككة يا ذلك الذي قد تركوا له العنان دونما إله ودونما عجلة النجاة تلك التي لعلها تنجي من الغرق ويقول في قصيدة «ان تحيا» الحاملة لنفس الملمح: ابحث حاول أن تجد نفسك بين العديد من الوجوه التي تذوب بمجرّد أن تطفو على سطح الذاكرة امش في معابر لا نهاية لها ودس أفكار ظلك ظلك الذي ينفصل عنك في رقاعة ظلك الذي يهرب منك غير آبه بذعرك واضطرابك ولقد كتبت قصة عنوانها «انشطار» نشرت في تزامن غريب مع تاريخ هذه القصيدة سأورد منها الفقرة التالية ليستشف القارئ ما بينها وبين النصوص الشعرية السابقة من تواشج في الرؤية وتقارب في المعني لصدور كليهما في نفس الحقبة وتحت تأثير نفس ظروفها الضاغطة: «بإحدى الحدائق العامة ذات يوم مشمس استلقى رجل كان يدّعي إنه كاتب على كرسي، وأغمض عينيه ليحلم بأن زمنا واحدا قد يتكرّر مرتين، وبأن الصدف قد تمرّ من نفس المكان كرّتين.. بأن المرء قادر أن يحيا حياتين (...) حاول المارة أن يفيقوه، وأخذ بعض الناس الرجل من كتفيه وأدلوا ساقيه حتى لامستا الأرض، ثم سوّوه واقفا، لكن ما إن فعلوا ذلك حتى انشطر الرجل نصفين، وضاع كل شطر منهما في الزحام.. وقلما التقى الشطران بعد ذلك.