وتقدم «عقبة» حتى أتى موضع «القيروان» فوجده واديا كثير الشجر تأوي اليه الوحوش والهوام وبه بقايا من حصون بالية وعمران متهدم قد أدركه الخراب فحط عقبة رحاله والتفت الى أصحابه وقال هنا مدينتكم فنظر بعضهم الى بعض كالمتعجب من أمر «عقبة» وقال قائل منهم: «لن نكون بمأمن يا «عقبة» تلك غابة موحشة تموج بالسباع والضباع والذئاب والحيات والعفاريت. قال «عقبة» حطوا رحالكم ورددوا معي: الله أكبر الله أكبر كلمة قالها «عقبة» وهدرت بها الجموع الكثيرة هديرا تجاوبت معه أعماق الصحراء... لقد خرجت السباع تحمل أشبالها والذئاب تحمل جراءها والحيات تحمل صغارها (1). ان القيروان مدينة لها سحرها وإني أحد الذين ولدوا بها ودرسوا ودرّسوا وتزوّجوا وأنجبوا وعاشوا بها قرابة الاربعين عاما، الا أني غادرتها منذ بداية الألفية الجديدة لأستقر بالوطن القبلي حيث البحر وأشياء كثيرة تختلف عن موطني الاصلي الاول لكن نداء طفوليا كان ومازال يعصف بي ليلا نهارا فلا أطفئ صوته بغير زيارة قصيرة تسكت صدى أحلام كانت ومازالت تؤرقني. فهل الشعر هو مدخلها؟ وهل الرواية يمكن ان تسجل تطور علاقتنا بها متساكنين وزائرين وقرّاء؟ أم ان خير ما يجمعنا بها وبأي مدينة أخرى يظل فضاء المتخيل ذاك الذي يحول الشيء ضده او لعله صورته التي لا تكون ممكنة بغير ذاك الجدل بين الكلمات والاشياء. ان القيروان مدينة تعود للقرن الاول للهجرة وفاتحها هو «عقبة ابن نافع» وهي رابع المدن «المقدسة» بعد مكةوالمدينة والقدس هكذا قيل. هي مدينة الذاكرة حيث يلتقي الانسان بسلطة الاله معلقة في سماء تزينها القباب والصومعة الأساس حيث جامع «عقبة ابن نافع» أول جامع شيّد في شمال افريقيا فهل هي مدينة «الآن» تستدعي العيون والقلوب الى الماضي؟ أم هي تلك «الذاكرة» الممنوعة حيث اللامرئي يسيطر على ما نسمعه وما نراه؟ لعل كتاب القاص والباحث الجامعي الاستاذ «المختار بوخريص» الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان «القيروان» الذاكرة الاخرى (2) محاولة جديدة للنبش في تاريخ هذه المدينة وقوفا على تجليات حضورها في كتابات الآخرين مكانا وتخيلا لزمان يمتد ويقصر ليصبح الآن هو الذات والآخر والتاريخ. هي حكايات عن مدينة تريد ان تخوض كيانها تأكيدا لانتمائها لفرادة معمارية وقيمية ميزتها عن ذاتها عبر عصور التاريخ وباعدت بينها وبين بقية المدن المجاورة لها والنائية عنها لترسم لوحات كيانها في ذاك المختلف الجمالي هي صورة يجسدها صاحب الكتاب بدءا من القرن السادس عشر وصولا الى القرن العشرين عبر متابعة حضورها في مدونات الآخرين شعراء وكتّابا وأكاديميين وديبلوماسيين وصحافيين ورسامين... لقد وقع الجميع على أبوابها وشموا أنفاس سكانها ومشوا بين أسواقها لينظروا الى مفاتن هذه المدينة وليصوّروا وقائعها فتصبح مدينة أخرى ينقلها السمع ويغذيها البصر فما الذي تغير فيها؟ وما الذي شاهده كل فيها؟ وما الذي راهن عليه صاحب العمل بهذا المؤلف؟ «انها مدينة الذاكرة» او هي ذاكرة الواحد وقد تعدد لدى تصويره لها عبر مخيلة يتجاذبها التنوع في الوحدة فكانت حاضرة في كتابات (موباسون فيكتور قوران... ورسوم «بول كلي»...) اضاءات يتحكم فيها منطق توحد الفنون السمعية والبصرية وتداخل العلوم بالفنون... فكأن في أرضها وفوق سمائها كنوز إلهام الشعراء والروائيين والصحافيين والسياسيين وعلماء الآثار... لعله سحر الاقتراب من كتابة جديدة تسعى المدينة لتأسيسها عبر عصور تواجدها او لعلها وقائع الاضافة الضرورية التي يسعى لتأسيسها الخيال عبر مراقبته لموضوع ينشئه مرات ومرات ذلك ان لا وجود للشبيه الا في الافواه الصامتة والعيون المغلقة وتحت أجفان الموتى. ان الاستاذ المختار بوخريص يود ان يعلن قيروان «التعدد» تلك التي بدأت بعقبة ابن نافع وجيشه الفاتح وتزايدت ككل المدن لتؤسس عبق التاريخ ذاك الذي جمع بين طياته صراع الموت والحياة والخراب والبناء والقول ونقيضه فكأن «القيروان الذاكرة الاخرى» هي الأنا والنحن الصورة وظلها الصوت وصداه والأحياء والأشباح هي نداء من امس بعيد يراه صاحبه قريبا تتجادل فيه الروح مع المكان ولعل المتأمل في بنية الكتاب يلمس بيسر أمرين أساسيين: أولهما : حرص المؤلف على تقريب القيروان من ذاكرة قارئه ذلك انه قام بتصدير فصول كتابه الخمسة بصور فوتوغرافية تجسد ملامح المدينة زمن تدوين زائريها لشهاداتهم مما يجعل الكلمات في جدل مع المشاهدة تقريبا للقارئ من الحدث وتحقيقا لامتاع مضاف. ثانيهما : ان هذا الكتاب تجاوز التاريخ للمدينة ليصل ذاك المتخيل الفني فصاحبه وهو يفتتح عمله بمقدمة ويغلقه بخاتمة لامس بذاته رغبة تأويلية صريحة وضمنية وجهت العمل نحو قارئ يتخيل «المدينة الاخرى» حيث يتنوع صوت متابعيها قصد تأكيد انشاء روافد جديدة لها. لعلها المدن لا تتأسس بغير زائريها ولا تكون ممكنة الا بتقدم معرفة مثقفيها بكنوزها وتقريبها من عيون الآخرين في حوار الازمنة والأمكنة فطوبى للمدن وهي تفتح أبوابها للابداع كتابة واستدعاء للحياة... وفي البدء كان الكلام كلمة معها كان الوجود. الهوامش : (1) عبد الله الزكرة : عقبة بن نافع دار قتيبة. (2) Moktar Bouskhris : Kairouan, l'autre mémoire, éditions, sahar 2008