«توعد ولا توفي أبد هذا الوعد صاير وعد عرقوب أخاف لاقيلك أحد درتْ البلدْ ولقيتلك محبوب» هذه الأسطر، تمثل المقطع الاول من نص شعري بلهجة أهلنا الخليجيين. نص أنيق، كتبه الشاعر الخليجي «عبد الله بوراس» ولحّنه الملحن «ناصر الصالح» ووزّعه الموزع «مدحت خميس» وغنّته المغنية العراقية «شذى حسّون». عنوان الاغنية هو «وعد عرقوب»، وهو نفس عنوان الألبوم الذي ضم الاغنية. وللتذكير ليس الا، فإن عرقوب هذا، هو رجل يضرب به المثل في الوعد الكاذب. وتذكر الروايات عن حكاية وعده هذا، ما ملخّصه، ان أحدهم جاءه في يوم يريد ان يقاسمه منتوج نخلته، فوعده بذلك ودعاه الى ان ينتظر طلعها، فلما طلعت، قال له انتظر حتى تصبح بلحا، فلما صارت بلحا، جاءه، فقال انتظر حتى تصبح رطبا فلما صارت رطبا جاءه فقال انتظر حتى تصبح تمرا، فلما أصبحت تمرا، ذهب اليها عرقوب ليلا وقطع عراجينها وأخذها لنفسه، وظل صاحبه ينتظر الى ما لا نهاية، فكان وعد عرقوب مضرب المثل في الرجل يعد ولا يفي، والموعود بوعد عرقوب هو الرجل المحكوم عليه بأن يبقى منتظرا الى الأبد. هذه حكاية عرقوب، بمنتهى الايجاز. أما عن الاغنية، فاعترف بأنها في منتهى الطربية، خاصة من حيث وفاؤها للون والايقاع الخليجيين اللذيذين في الاسماع، اضافة الى أناقة البصمة التي أضافها الموزع. الى هذا الحد يبدو الامر عاديا، ولا غرابة فيه. ولكن أمرا بعد ذلك حدث في منتهى الخطورة، أمر يثير في النفس شعورا يجتمع فيه القرف بالشجن. ما حدث بعد ذلك، كان موضوعا لعديد التعاليق وعديد المقالات في أكثر من صحيفة وأكثر من منبر اعلامي عربي. «الفنانة» «شذى حسّون»، أرادت ان تضمن للأغنية انتشارا أوسع، فاتجهت كغيرها من «فناني» هذا الزمن الى تصوير الاغنية بطريقة «الفيديو كليب»، واختارت للمهمة، المخرج المبدع المفزع «يحيى سعادة». وكان الكليب فعلا. سيناريو في غاية الغرابة، وصورا تثير الاشمئزاز، بمعطيات الدنيا كما بمعطيات الدين، صور تضرب صميم العاطفة والاخلاق والقيم. السيناريو ملخصه، علاقة حب من طرف واحد بن امرأة عربية الملامح، تظهر في صور العاشقة المتلهفة لحبيبها، والساعية الى ارضائه بشتى الوسائل، وأقول جيدا بشتى الوسائل، وتجسّد الدور «الفنانة» نفسها، والحبيب ذو ملامح غير عربية، يفهم من السياق انه من جنود احدى البلدان المحتلة للعراق، وهذا الحبيب يظهر في السيناريو في صورة المتمنّع، «المطنّش» بعبارة أصدقائنا المصريين، صورة الذي لا يأبه بالايماءات، ولا يضعف امام الاغراءات. «حكاية» تنطق بالبذاءة، وسيناريو يؤذي ذوق ويؤذي عاطفة ويؤذي عقل كل عربي يعتز بعروبته. ولعل أكثر المشاهد ايذاء، هو مشهد الختام، وبئس الختام، حين تظهر «الفنانة» في لباس غير محتشم، حتى لا أقول أكثر، تظهر وهي جالسة على سرير نوم، والسرير داخل عربة عسكرية ليس من الصعب ان نفهم انها عربة أمريكية، وفي هذا المشهد، تظهر المرأة وهي تحاول دعوة حبيبها الجندي المحتل الى ان لا يرحل عنها، وربما عن سريرها، في حركات يدوية وجسمانية ألفناها في الافلام الرومانسية التقليدية، لكن الحبيب لا يأبه «للشيء» الذي أمامه. وهذا المقطع كان اكثر مقاطع الكليب جلبا للانتباه وللتعاليق من قبل الجمهور العربي، وخاصة من بقيت في أنفسهم بقايا من جينات الغيرة والحمية العربيين. ما هي الرسالة التي أرادت «ابنتنا» «الفنانة» «شذى حسّون» ان تنقلها الينا؟ هل هذه هي صورة الفتيات العربيات؟ هل هذه هي صورة الماجدات العراقيات؟ هل الأسرّة الناعمة هي كل ما أعددنا للغزاة؟ هل أن أجساد بناتنا مندرجة في ما أعددنا من قوّة ومن رباط خيل لنقاوم بهما عدونا؟ يا أيّتها «شذى»: أي جينات تحرّكت فيك وأنت تصوّرين تلك المشاهد؟ هل هي جينات أبيك، أصيل بابل التي اختارها حمورابي عاصمة لدولته؟ أم هي جينات أمّك المغربية حفيدة عبد الكريم الخطابي «أسد الريف وأمير المجاهدين»؟ يا أيّتها «شذى»: من أين جئت؟ و«كرم اللوز سيّجه أهلي وأهلك بالأغصان والكبد» (مع خالص الاعتذار لمارسيل ودرويش)... يا أيّتها «شذى»: هل تلك هي صورة الجندي المحتل فعلا؟ صورة القويّ الصامد أمام الاغراءات؟ الحريص على أعراض بنات العرب؟ المحترف، المهني، المتفاني في احترام واجبه، حتى أنه يمنعه الى الالتفات الى الملذات؟ إذا كانت هذه هي الصورة الحقيقية للجندي المحتل للعراق؟ ترى من الذي قتل أطفالنا ومن الذي اغتصب نساءنا هناك؟ إذا كان جنود الاحتلال بهذه «النظافة» وهذا العفاف، فمن ترى الذي اغتصب «عبير الجنابي» وغيرها من ماجدات بلد الرافدين؟ «الشذائيون» (نسبة الى «شذى حسّون»، وهم أنصارها والمتعاطفون معها)، وبعدما لاحظوا ردّ الفعل العنيف عن الكليب وما في الكليب، حاولوا إيجاد مخرج للمأزق، فكان عذرهم أقبح من ذنب. «الشذائيون»، قالوا إن في الكليب رسالة سياسية ووطنية، وأنها تدعو الى المقاومة والى طرد المحتل، ولكنها رسالة ضمنية لا يستطيع فكّ رموزها غير عباقرة السينما والسمياء، وربّما الفيزياء والكيمياء، ولم يبق غير أن يعلنوا أن «شذى» هي احدى قادة المقاومة في محافظة الأنبار أو في مدينة الحنّة (مسقط رأسها)... اعترف أنني لست سينمائيا ولا سيميائيا. واعترف انني لم أخرج في حياتي فيلما واحدا ولا «كليبا» واحدا، ولكني أقرّ بتواضع، أن مداركي عادية بحيث تستطيع أن تفهم كل رسالة يطرحها فيلم أو كليب، طالما كانت مطروحة للعموم. ولأني لم أقرأ أيا من هذه المعاني وهذه الرسائل التي تحدث عنها «الشذاؤون» فمعنى ذلك بمنتهى البساطة: إما أن تكون هذه الرسالة غير موجودة أصلا، وإما أنها مكتوبة بالحبر السرّي. وعليه فإني التمس من «شذى» ومن «الشذائين» أن يختاروا أمرا من أمرين، إما أن يسحبوا كليبهم المسيء على وجه السرعة، وإما أن يواصلوا عرضه شرط أن يكتبوا في بدايته، ممنوعا على غير العباقرة، أو خاصا بالمختصين في قراءة ما لا يقرأ... آآآآه.... يا كليبات آخر زمن... آآآآه... يا فنّاني آخر زمن. رحمك الله يا أم كلثوم تركتنا كالأيتام أمام كليبات اللئام...