كنت توقفت في الحلقة (10) من هذا الركن والمتعلقة بالحوار الطريف الذي كان بين الفضل ابن يحيى البرمكي وبين رجل من الأعراب جاء على ناقة قادما من قبيلة قضاعة وهو يقصد الفضل بغاية ان يناله شيء من كرمه واحسانه الذي اشتهر به بين الناس جميعا، وليس له من وسيلة تبلغه الفضل الا بيتان من الشعر يمدحه بهما، ولكن الفضل لما سمع البيتين قال للأعرابي : هذا مما سمعته من أفواه الناس، فان كانتا من شعرك فأنشدني غيرهما فارتجل الأعرابي بيتين أخريين، ولكن الفضل كان في كل مرة يعمد الى تكذيبه الى ان نفد صبر الأعرابي وقال للفضل : لئن استزادني الفضل لأقولن فيه أربعة أبيات ما سبقني اليها عربي ولا أعجمي، ولئن استزادني بعدها لاجمعن قوائم ناقتي هذه وافعلن بالفضل وبأمه ما أفعل، فضحك الفضل كثيرا وعرف للاعرابي بأنه هو الفضل بعينه وطمأنه بعد ان لاحظ خوفه وطلب منه سماع الأبيات وذكر حاجته فأنشد الأعرابي . ولائمة لامتك يا فضل في الندى فقلت لها : هل يقدح اللوم في البحر أتنهين فضلا عن عطاياه للغنى فمن ذا الذي ينهى السحب عن القطر كأن نوال الفضل في كل بلدة تحدر هذا المزن في مهمه قفر كأن وفود الناس في كل وجهة الى الفضل لاقوا عنده ليلة القدر ولما سمع الفضل الأبيات سر سرورا عظيما وأعجب بفصاحة الأعرابي وشدة ذكائه وتوقد شاعريته وحسن تخلصه وقال له : الآن اذكر لي حاجتك؟ فقال : حاجتي عشرة آلاف درهم فقال له الفضل : لقد ازدريت بنا وبنفسك يا اخا العرب ولكن تعطى عشرة الاف درهم في عشرة الاف، ولما اصبح المال في يد الأعرابي حسده وزير الفضل وقال للفضل : يا مولاي هذا اسراف عندما تعطي هذا المبلغ الكبير لجلف من اجلاف العرب عن أبيات ربما يكون استرقها من أشعار العرب فقال له : لقد استحق ذلك بشعره وبحضوره الينا من أرض قضاعة، فقال الوزير : أقسمت عليك يا مولاي ان تأخذ سهما من كنانتك وتركبه في كبد قوسك وتشير به الى هذا الأعرابي فان استطاع ان يرد السهم عنه ببيت من الشعر، والا استرجعت مالك وتعطيه منه القليل، ففعل الفضل ذلك وقال للأعرابي (رد سهمي ببيت من الشعر) فقال مرتجلا : لقوسك قوس الجود والوتر والندى وسهمك سهم العز فارم به فقري فضحك الفضل وأنشأ يقول : اذا ملكت كفي منالا ولم أنل فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي على الله اخلاف الذي قد بذلته فلا مسعدي بخلي ولا متلفي بذلي أروني بخيلا نال مجدا ببخله وهاتوا كريما مات من كثرة البذل ثم ان الفضل قال لوزيره : اعط الاعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره ومائة الف درهم ليكفينا شر قوائم ناقته، فأخذ الأعرابي هذا المال الكثير مغتبطا مسرورا ثم انصرف وهو يبكي فاستوقفه الفضل وقال له : ما يبكيك ايها الاعرابي ؟ هل استقللت المال الذي أعطيناك؟؟؟ فقال : لا يا مولاي ولكني ابكي على رجل مثلك يموت ويأكله التراب وتواريه الأرض في ظلمة القبر وقد تذكرت الآن قول الشاعر : لعمرك ما الرزية فقد مال ولا فرس يموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت لموته خلق كثير