اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    قابس: إسعاف 15 تلميذًا بعد تعرّضهم للإختناق والإغماء    عضو بمجلس هيئة الانتخابات: لا يمكن تجاوز هذا التاريخ كأقصى موعد للرئاسية    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    المبادلات التجارية الجزائرية - الأوربية تلامس 47 مليار دولار    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    مصر: رفع اسم أبوتريكة من قائمات الإرهاب والمنع من السفر    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    تحذير: عواصف شمسية قوية قد تضرب الأرض قريبا    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    بسبب الربط العشوائي واستنزاف المائدة المائية .. قفصة تتصدّر خارطة العطش    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    بلاغ مروري بمناسبة مقابلة الترجي والأهلي    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    المنستير: إحداث أوّل شركة أهليّة محليّة لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    الحماية المدنية: 8 وفيّات و 411 مصاب خلال ال 24 ساعة الفارطة    كأس تونس: النجم الساحلي يفقد خدمات 4 لاعبين في مواجهة الأهلي الصفاقسي    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    عاجل/ القسّام: أجهزنا على 15 جنديا تحصّنوا في منزل برفح    والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«وحدات التدخل التشكيلي» (BIP) التونسية تحظى باهتمام عالمي : الخروج بالفن التشكيلي التونسي من المراسم المظلمة
نشر في الشروق يوم 29 - 03 - 2010

ثمة مغامرات فنية في تونس طريفة وخارجة عن المألوف لا نكاد نأخذها بعين الاعتبار, بل قد نتحاشى الانتباه إليها , لأنها فقط اجترحت لنفسها طريقا غير معبد, ولأننا عادة ما نكون تحت سطوة أفكار مسبقة, أيديولوجيا ثقافية مهيمنة تثنينا عن التأمل فيها, وربما تحظى هذه التجارب باهتمام الآخر فيثمّنها, ويعطيها قيمتها التي تستحق , فنعيد الانتباه إليها , ونحاسب أنفسنا عن ضيق الأفق وعن السلبية المتأصلة في طواحيننا اليومية المأخوذة بسلطة الشيء المكرس والمتفق عليه سلفا والحال أننا نتظاهر باليقظة, لكنها في الحقيقة بيقظة مزيفة, فنعاود الكرة في تقزيم أنفسنا والشك في قدراتنا ... وكأن الآخر «الغيري» هوقدرنا يعيد إلينا معاني الأشياء ... هذا ما حدث مع تجربة تشكيلية تونسية تعرف ب«وحدات التدخل التشكيلي» ينتبه إليها فنان أمريكي من نيويورك ليقوم بترويجها مع حفظ حقوق أصحابها ...
عبد الحليم المسعودي
في عزلة الفن التشكيلي ونخبويته
لا شك أن الفن التشكيلي التونسي، بكل أشكاله ومظاهره لا يزال محبوسا في دوائره الخاصة به . وهي دوائر لها قوانينها الخاصة سواء كانت سوقا تشكيلية, أومراسم, أومعارض , أوأروقة , أومعايير باطنية مغلقة على أهلها وزبائنها وروادها ومريديها ووسطائها ومضارباتها الخاصة, وحرّاسها من نقاد وأكاديميين ومنظرين وخبراء في مجال الفن, ومروجين ومعدلي أسعاره ... ومتاهة الفن التشكيلي في تونس, هي أكثر من متاهة ... إنه عالم داخلي لا يقبل الشفافية ولا الإعلان المباشر , بالقدر الذي ينتعش فيه في كنف السريّة, والتكتلات, والمدارس, والعلاقات الخاصة والخاصة جدا ... متاهة لها قوانينها الخاصة, ولها مصالحها، ولها مواسمها ومتنفّذوها ومهمّشوها ... وكم نفاجأ كل مرّة برحيل فنان تشكيلي تونسي – وهم يرحلون الواحد تلوالآخر – دون أن يكون رحيله متبوعا بأسرار , وقصص وحكايات , ومسائل , هي جزء قليل من أسرار تلك المتاهة المدوّخة التي تجعل الفن بعيدا عن الناس ومحصورا في دوائره النّخبوية المغلقة ... وقد تكون مضامين هذا الفنان أوذاك محتضنة لهموم الناس ومشاغلهم وأحلامهم، غير أنه من يملك هذه الأعمال؟. من يملك أعمال عمّار فرحات, أوعمارة دبّش, أوالحبيب بوعبانة كفنانين تونسيين كرسوا حياتهم لتصوير هموم الناس ونقلها جماليا إلى أعمال خالدة؟.
وبالمقابل ينأى الفن التشكيلي عن الناس, وعن إمكاناتهم... هكذا يمارس الفن في عزلته وظلمته وأسراره. ويظل تشريك الناس في لحظة الإبداع فكرة طوباوية, بل خيالية محصنة بفكرة مقدسة , هي سر الفن وطقوسه .
«وحدات التدخل التشكيلي»... أو ميلاد «الأسلوب التونسي»
لكن بالمقابل أيضا ثمة تجربة جديرة بالاهتمام في كسر هذا الطوق , وحمل الفن إلى الناس , كسر مركزيته الموحشة في اتجاه لامركزية ممكنة قامت بها جماعة سمت نفسها ب «وحدات التدخل التشكيلي» (Brigade d'Intervention Plastique), وفي الاسم نفس مغامر ومقاوم لا يخلومن مخيلة وروح فوضوية , حلم بها الهاشمي غشّام فنان وشاعر وناقد وإعلامي, ونفّذها في أواخر الثمانينات, وواصلها مع مجموعة من الفنانين التشكيليين وتحولت حين اكتشف هذه التجربة فنان وأكاديمي أمريكي هودافيد بلاك David Black إلى ما يعرف الآن بالأسلوب التونسي ‘' Tunisian style ‘' , وقام بتنفيذها منذ العام الماضي بنفس الأسلوب في الولايات المتحدة الأمريكية, وتحولت إلى نسق بات يعرف بالأنقليزية تحت عنوان أوطريقة : The Tunisian – style Collaborative Painting, أي «الأسلوب التونسي في التّعاون التشكيلي», وفيه دلالة على حسّ بيداغوجي يستأهل الاهتمام.
تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التونسية انطلقت كما أشرنا في أواخر الثمانينات في مدينة المهدية على يد هاشمي غشام الذي جمع ثلة من الفنانين التشكيليين التونسيين في هذه المغامرة الفريدة من نوعها كالفنان الراحل عبد الرزاق الساحلي وخالد بن سليمان والحبيب بيده والراحل فوزي الشتيوي والأمين ساسي وعلي خوجة وإبراهيم العزابي وغيرهم, ليقوموا بانجاز أعمال تشكيلية على عين المكان في إطار ماراطون تشكيلي يمتد من 24 ساعة أو70 ساعة متواصلة يتم فيها إنجاز أعمال جماعية وأخرى فردية انطلاقا من موضوع أوتيمة موحدة, وهي عملية قائمة على الحرية في الأسلوب والأداء, ثم يتم في نهاية هذا الماراطون التجريبي الوصول إلى توحيد الأسلوب من خلال انجاز عمل تشكيلي ضخم تمحي فيه الفوارق الأسلوبية الفردية لتنصهر في أسلوب جديد لا يمضيه فنان واحد بل هوثمرة المجموعة المنخرطة في هذه المغامرة. ثم تواصلت هذه المغامرة طوال التسعينات مع انقطاعات متكرّرة , غير أن العشرية الأولى شهدت عودة هذه التجربة, حين عملت «وحدات التدخل التشكيلي» في توسيع هذا النشاط على مستوى اللامركزية , كثفت تدخلها لهذا النوع من المغامرة, فقامت بنشاط في مدينة دوز بمناسبة مهرجان الصحراء وفي مدينة تازركة وفي الحمامات وتونس بفضاء مسرح التياترو ونهج مرسيليا, وآخرها في العام الماضي في ساحة محمد علي بمناسبة العدوان على غزة, كما سبق لها وأن عرفت بهذه المغامرة مباشرة على أركاح التلفزة التونسية... وفي هذه الأثناء أيضا عدد هام من الفنانين التشكيليين الجدد لمغامرة التدخل كالراحل نجيب بلخوجة وحمادي بن سعد ومراد الزارعي وحليم قارة بيبان وألفة جغام, وبسمة الهداوي, ومحمد شلبي, وعمر باي, ومصطفى بن عطية, وزياد لصرم ونجاة غريسة وآخرهم من الشباب الصاعدين حمدي مزهود .
طريقة التدخل التشكيلي وأسلوبه
وفلسفة «وحدات التدخل التشكيلي» تقوم على رصد فكرة الخروج بالفن التشكيلي من عزلته التقليدية إلى فضاءات ومناسبات جديدة غير مألوفة, وتجاه متلق جديد لا يتم التفكير فيه بطريقة انتهازية هدفها تحويله إلى زبون, وإنما تحويل هذه العلاقة التقليدية إلى علاقة تفاعلية قائمة على الارتجال والمباغتة والمشاركة في لحظة إنجاز العمل الفني, واستكشاف المتلقي لأسرار المنجز الفني وهو يتشكل, إلى جانب تحويل علاقة الفنان التشكيلي بزميله من علاقة المزاحمة والغريم إلى علاقة المحاورة الأسلوبية والتفاعل الجمالي في اتجاه هدف موحد هوهدف وحدة الأسلوب والتبني المشترك للإنتاج الفني, كما تقوم تجربة وحدات التدخل التشكيلي « على التعامل مع المؤسسات والجمعيات الثقافية من منطلق المساهمة في تقاسم تكاليف الإنجاز الفني , ومساهمة الفنانين من خلال هذه المغامرة بأعمالهم لهذه الجمعيات لاستثمارها كقيم مادية يعاضدون بها مداخيلهم عندما تتمكن هذه الجمعية الثقافية من ترويج وبيع هذه الأعمال لفائدة نشاطهم الثقافي أو الاجتماعي. فعملية التدخل بالأساس متعددة الأهداف, تدخل جمالي وفني على مستوى تقريب الممارسة الفنية للجمهور الذي قد يجهل الميلاد الخاص للعمل الفني فتحصل بذلك المعرفة والتربية الذوقية, وتدخل ثقافي تنشيطي لأن مغامرة الرسم في حيز زماني موحد يتخذ شكل الماراطون يخلق حوله حراكا ثقافيا مهما لا يخلومن فائدة ومن تأكيد على فكرة المواطنة عبر المسلك الجمالي والثقافي, وهدف اجتماعي جمعياتي لأن مردود هذه العمليات قد يساهم بشكل رمزي في تقوية هذه الجمعية أوتلك في مواصلة نشاطها, وهدف ثقافي سياسي لأن مثل هذه العمليات تخرج الفن التشكيلي وممارسته من عزلته تجاه لامركزية تقطع من الأماكن الخاصة والمغلقة والنخبوية في التعامل الفني التشكيلي إلى جانب كون المنتج الفني الذي عادة ما يكون ضخما (يبلغ معدل اللوحة الفنية حجم 6م x 12م) لا يمكن الاحتفاظ به بالنسبة إلى مقتني الأعمال أو جامع أعمال فنية وإنما هي لوحات صالحة للعرض العمومي في الأماكن والفضاءات العمومية يراها الجميع ويتذوقها متلق عمومي.
«الأسلوب التونسي»
في نيويورك
في شهر فيفري الماضي عرضت ثلاث مجموعات من الرسامين والفنانين التشكيليين الأمريكيين التابعين لأكاديمية معهد ليم للفنون الجميلة Lyme Academy College of Fine Arts بنيويورك مجموعة من الأعمال الفنية أمام الجمهور وأمام طلبة الفنون الجميلة معرفين طريقة عملهم ب«الأسلوب التونسي», وقد قادهم إلى هذه التجربة الأكاديمي والفنان التشكيلي دافيد بلاك الذي سبق وأن تعرف العام الماضي على تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التي يديرها الهاشمي غشام, كما سبق له وأن ساهم مع الهاشمي غشام ومراد الزارعي وحمادي بن سعد في إنتاج أعمال تشكيلية في تونس في المرسم الخاص لفضاء بوعبانة... دافيد بلاك نقل أسلوب هذه المغامرة في الأوساط التشكيلية والجامعية, وقام بسلسلة من المحاضرات للتعريف بهذا الأسلوب التونسي, وقد بدأت فعلا هذه التجارب تظهر شيئا فشيئا كأسلوب بيداغوجي وفني في بعض الأوساط كما هوالحال في معاهد الفنون الجميلة في كارولينا الجنوبية وفيلادلفيا ونيويورك تحت إسم «الأسلوب التونسي»... ويبدوأن هذا الأسلوب الذي روج له دافيد بلاك في نيويورك قد حظي باهتمام عملي في بريطانيا وكندا وسويسرا , واهتمت به وسائل الإعلام الأمريكية, وقد عرفت مؤخرا قناة العربية من خلال وثائقي بانتشار هذا الأسلوب في نيويورك ...
في عزلة الفن التشكيلي ونخبويته
لا شك أن الفن التشكيلي التونسي، بكل أشكاله ومظاهره لا يزال محبوسا في دوائره الخاصة به . وهي دوائر لها قوانينها الخاصة سواء كانت سوقا تشكيلية, أومراسم, أومعارض , أوأروقة , أومعايير باطنية مغلقة على أهلها وزبائنها وروادها ومريديها ووسطائها ومضارباتها الخاصة, وحرّاسها من نقاد وأكاديميين ومنظرين وخبراء في مجال الفن, ومروجين ومعدلي أسعاره ... ومتاهة الفن التشكيلي في تونس, هي أكثر من متاهة ... إنه عالم داخلي لا يقبل الشفافية ولا الإعلان المباشر , بالقدر الذي ينتعش فيه في كنف السريّة, والتكتلات, والمدارس, والعلاقات الخاصة والخاصة جدا ... متاهة لها قوانينها الخاصة, ولها مصالحها، ولها مواسمها ومتنفّذوها ومهمّشوها ... وكم نفاجأ كل مرّة برحيل فنان تشكيلي تونسي – وهم يرحلون الواحد تلوالآخر – دون أن يكون رحيله متبوعا بأسرار , وقصص وحكايات , ومسائل , هي جزء قليل من أسرار تلك المتاهة المدوّخة التي تجعل الفن بعيدا عن الناس ومحصورا في دوائره النّخبوية المغلقة ... وقد تكون مضامين هذا الفنان أوذاك محتضنة لهموم الناس ومشاغلهم وأحلامهم، غير أنه من يملك هذه الأعمال؟. من يملك أعمال عمّار فرحات, أوعمارة دبّش, أوالحبيب بوعبانة كفنانين تونسيين كرسوا حياتهم لتصوير هموم الناس ونقلها جماليا إلى أعمال خالدة؟.
وبالمقابل ينأى الفن التشكيلي عن الناس, وعن إمكاناتهم... هكذا يمارس الفن في عزلته وظلمته وأسراره. ويظل تشريك الناس في لحظة الإبداع فكرة طوباوية, بل خيالية محصنة بفكرة مقدسة , هي سر الفن وطقوسه .
«وحدات التدخل التشكيلي»... أو ميلاد «الأسلوب التونسي»
لكن بالمقابل أيضا ثمة تجربة جديرة بالاهتمام في كسر هذا الطوق , وحمل الفن إلى الناس , كسر مركزيته الموحشة في اتجاه لامركزية ممكنة قامت بها جماعة سمت نفسها ب «وحدات التدخل التشكيلي» (Brigade d'Intervention Plastique), وفي الاسم نفس مغامر ومقاوم لا يخلومن مخيلة وروح فوضوية , حلم بها الهاشمي غشّام فنان وشاعر وناقد وإعلامي, ونفّذها في أواخر الثمانينات, وواصلها مع مجموعة من الفنانين التشكيليين وتحولت حين اكتشف هذه التجربة فنان وأكاديمي أمريكي هودافيد بلاك David Black إلى ما يعرف الآن بالأسلوب التونسي ‘' Tunisian style ‘' , وقام بتنفيذها منذ العام الماضي بنفس الأسلوب في الولايات المتحدة الأمريكية, وتحولت إلى نسق بات يعرف بالأنقليزية تحت عنوان أوطريقة : The Tunisian – style Collaborative Painting, أي «الأسلوب التونسي في التّعاون التشكيلي», وفيه دلالة على حسّ بيداغوجي يستأهل الاهتمام.
تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التونسية انطلقت كما أشرنا في أواخر الثمانينات في مدينة المهدية على يد هاشمي غشام الذي جمع ثلة من الفنانين التشكيليين التونسيين في هذه المغامرة الفريدة من نوعها كالفنان الراحل عبد الرزاق الساحلي وخالد بن سليمان والحبيب بيده والراحل فوزي الشتيوي والأمين ساسي وعلي خوجة وإبراهيم العزابي وغيرهم, ليقوموا بانجاز أعمال تشكيلية على عين المكان في إطار ماراطون تشكيلي يمتد من 24 ساعة أو70 ساعة متواصلة يتم فيها إنجاز أعمال جماعية وأخرى فردية انطلاقا من موضوع أوتيمة موحدة, وهي عملية قائمة على الحرية في الأسلوب والأداء, ثم يتم في نهاية هذا الماراطون التجريبي الوصول إلى توحيد الأسلوب من خلال انجاز عمل تشكيلي ضخم تمحي فيه الفوارق الأسلوبية الفردية لتنصهر في أسلوب جديد لا يمضيه فنان واحد بل هوثمرة المجموعة المنخرطة في هذه المغامرة. ثم تواصلت هذه المغامرة طوال التسعينات مع انقطاعات متكرّرة , غير أن العشرية الأولى شهدت عودة هذه التجربة, حين عملت «وحدات التدخل التشكيلي» في توسيع هذا النشاط على مستوى اللامركزية , كثفت تدخلها لهذا النوع من المغامرة, فقامت بنشاط في مدينة دوز بمناسبة مهرجان الصحراء وفي مدينة تازركة وفي الحمامات وتونس بفضاء مسرح التياترو ونهج مرسيليا, وآخرها في العام الماضي في ساحة محمد علي بمناسبة العدوان على غزة, كما سبق لها وأن عرفت بهذه المغامرة مباشرة على أركاح التلفزة التونسية... وفي هذه الأثناء أيضا عدد هام من الفنانين التشكيليين الجدد لمغامرة التدخل كالراحل نجيب بلخوجة وحمادي بن سعد ومراد الزارعي وحليم قارة بيبان وألفة جغام, وبسمة الهداوي, ومحمد شلبي, وعمر باي, ومصطفى بن عطية, وزياد لصرم ونجاة غريسة وآخرهم من الشباب الصاعدين حمدي مزهود .
طريقة التدخل التشكيلي وأسلوبه
وفلسفة «وحدات التدخل التشكيلي» تقوم على رصد فكرة الخروج بالفن التشكيلي من عزلته التقليدية إلى فضاءات ومناسبات جديدة غير مألوفة, وتجاه متلق جديد لا يتم التفكير فيه بطريقة انتهازية هدفها تحويله إلى زبون, وإنما تحويل هذه العلاقة التقليدية إلى علاقة تفاعلية قائمة على الارتجال والمباغتة والمشاركة في لحظة إنجاز العمل الفني, واستكشاف المتلقي لأسرار المنجز الفني وهو يتشكل, إلى جانب تحويل علاقة الفنان التشكيلي بزميله من علاقة المزاحمة والغريم إلى علاقة المحاورة الأسلوبية والتفاعل الجمالي في اتجاه هدف موحد هوهدف وحدة الأسلوب والتبني المشترك للإنتاج الفني, كما تقوم تجربة وحدات التدخل التشكيلي « على التعامل مع المؤسسات والجمعيات الثقافية من منطلق المساهمة في تقاسم تكاليف الإنجاز الفني , ومساهمة الفنانين من خلال هذه المغامرة بأعمالهم لهذه الجمعيات لاستثمارها كقيم مادية يعاضدون بها مداخيلهم عندما تتمكن هذه الجمعية الثقافية من ترويج وبيع هذه الأعمال لفائدة نشاطهم الثقافي أو الاجتماعي. فعملية التدخل بالأساس متعددة الأهداف, تدخل جمالي وفني على مستوى تقريب الممارسة الفنية للجمهور الذي قد يجهل الميلاد الخاص للعمل الفني فتحصل بذلك المعرفة والتربية الذوقية, وتدخل ثقافي تنشيطي لأن مغامرة الرسم في حيز زماني موحد يتخذ شكل الماراطون يخلق حوله حراكا ثقافيا مهما لا يخلومن فائدة ومن تأكيد على فكرة المواطنة عبر المسلك الجمالي والثقافي, وهدف اجتماعي جمعياتي لأن مردود هذه العمليات قد يساهم بشكل رمزي في تقوية هذه الجمعية أوتلك في مواصلة نشاطها, وهدف ثقافي سياسي لأن مثل هذه العمليات تخرج الفن التشكيلي وممارسته من عزلته تجاه لامركزية تقطع من الأماكن الخاصة والمغلقة والنخبوية في التعامل الفني التشكيلي إلى جانب كون المنتج الفني الذي عادة ما يكون ضخما (يبلغ معدل اللوحة الفنية حجم 6م x 12م) لا يمكن الاحتفاظ به بالنسبة إلى مقتني الأعمال أو جامع أعمال فنية وإنما هي لوحات صالحة للعرض العمومي في الأماكن والفضاءات العمومية يراها الجميع ويتذوقها متلق عمومي.
«الأسلوب التونسي»
في نيويورك
في شهر فيفري الماضي عرضت ثلاث مجموعات من الرسامين والفنانين التشكيليين الأمريكيين التابعين لأكاديمية معهد ليم للفنون الجميلة Lyme Academy College of Fine Arts بنيويورك مجموعة من الأعمال الفنية أمام الجمهور وأمام طلبة الفنون الجميلة معرفين طريقة عملهم ب«الأسلوب التونسي», وقد قادهم إلى هذه التجربة الأكاديمي والفنان التشكيلي دافيد بلاك الذي سبق وأن تعرف العام الماضي على تجربة «وحدات التدخل التشكيلي» التي يديرها الهاشمي غشام, كما سبق له وأن ساهم مع الهاشمي غشام ومراد الزارعي وحمادي بن سعد في إنتاج أعمال تشكيلية في تونس في المرسم الخاص لفضاء بوعبانة... دافيد بلاك نقل أسلوب هذه المغامرة في الأوساط التشكيلية والجامعية, وقام بسلسلة من المحاضرات للتعريف بهذا الأسلوب التونسي, وقد بدأت فعلا هذه التجارب تظهر شيئا فشيئا كأسلوب بيداغوجي وفني في بعض الأوساط كما هوالحال في معاهد الفنون الجميلة في كارولينا الجنوبية وفيلادلفيا ونيويورك تحت إسم «الأسلوب التونسي»... ويبدوأن هذا الأسلوب الذي روج له دافيد بلاك في نيويورك قد حظي باهتمام عملي في بريطانيا وكندا وسويسرا , واهتمت به وسائل الإعلام الأمريكية, وقد عرفت مؤخرا قناة العربية من خلال وثائقي بانتشار هذا الأسلوب في نيويورك ...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.