سعيّد خلال زيارته إلى صفاقس والقيروان: لا مجال للتفريط في هنشير الشعّال    مناقشة الميزان الاقتصادي    قضية صناع المحتوى الخادش للحياء ...4 سنوات و6 أشهر سجنا ل «انستاغراموز»    103 ملايين دينار .. أرباح الإيجار المالي    مع الشروق .. القطاع السّياحيّ .. قاطرة الاقتصاد المُعطّبة    بنزرت...لهذه الأسباب.. الحِرف اليدويّة مهدّدة بالاندثار !    ارتفاع عدد قتلى السيول في إسبانيا إلى 140 قتيلا    حقيبة الأخبار: العمران تواجه سليمان في باردو وقاعة القرجاني تحوّلت إلى «لغز» كبير    كشفتها تصريحات البدوي : هل فقد سانتوس ثقة هيئة «السي .آس .آس»؟    فتح محضر عدلي للوقوف على ملابسات وفاة رضيعة حديثة الولادة عُثر على جثتها في مصب فضلات (مصدر قضائي)    فيما الأبحاث على أشدّها : العثور على جثتين آدميتين بالمرناقية و العاصمة !!!    معركة مسلحة بين عائلتين في المرناقية: قتيلان والقبض على 15 متورّطا    فيه ظلم مبين وإثم كبير.. هتك الأعراض في الإسلام !    هل ظلم الإسلام المرأة في الإرث؟!    منبر الجمعة: بلوغ الآفاق بسمو الأخلاق    غدا.. انطلاق المؤتمر الوطني الثالث لجراحة الصدر    الإدارة العامة للديوانة تمنح صفة متعامل اقتصادي معتمد إلى 17 مؤسسة جديدة    تقديرات صابة القوارص تتجاوز 14 الف طن في هذه الولاية    بلاغ تحديد الأسعار القصوى عند الإنتاج لبيع للدجاج الحي    وزارة الشباب والرياضة تقيم حصيلة المشاركة التونسية في الالعاب الاولمبية والبرالمبية باريس 2024 وتقدم استراتيجيتها لالعاب لوس انجلس    عاجل/ قتلى في قصف صاروخي من لبنان على اسرائيل    عاجل/ إيران تتوعّد إسرائيل بردّ قاس    الحمامات.. انطلاق أشغال المؤتمر السابع للجمعية التونسية للطب العام وطب العائلة    "فوضى الفضائيات".. قرارات صارمة ضد عدد من البرامج في مصر    مكافحة التهريب : حجز سلع ومنتجات مهرّبة ناهزت قيمتها 409،725 مليون دينار    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 3 نوفمبر 2024    الهالوين: أصل الاحتفال به وحقيقة كونه عيدا وثنيا    الترفيع في سقف التمويل وتبسيط الاجراءات الادارية أبرز مطالب أعضاء مجالس ادارة الشركات الاهلية    تأجيل مباراة ريال مدريد وفالنسيا بسبب الفيضانات    تصفيات كاس امم افريقيا (المغرب 2025):تغير طاقم تحكيم وملعب مباراة مدغشقر – تونس    الليلة: امطار متفرقة ورياح قوية بهذ الجهات    ثلاثة أفلام تونسية ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي    محطة استخلاص سيدي ثابت : حجز كميات من المخدرات وايقافات بالجملة    إنتقالات: ريال مدريد يرحب ببيع أحد نجوم الفريق    عاجل/ معركة بين عائلتيْن بهذه الجهة تُسفر عن قتيلين والاحتفاظ ب14 شخصا    كريدة اليد : موعد كلاسيكو الترجي و النجم و بقية المباريات    فرك العينين بطريقة مفرطة يؤدي إلى الإصابة بإضطراب "القرنية المخروطية"    الصحة العالمية: تسجيل مستوى قياسي لحالات الإصابة بالسل    الدورة 28 للمهرجان الدولي للاغنية الريفية والشعر الشعبي بالمزونة    باجة: انطلاق الموسم الزيتي وغلق 4 معاصر شرعت فى العمل قبل الافتتاح الرسمي للموسم    باجة: إخماد حريق بمحل لبيع الدهن والمحروقات بالمدينة    عاجل : رجة أرضية بقوة 4.1 درجة تضرب هذه الدولة العربية    تركيبة أعضاء مكتب ولجان مجلس الجهات والأقاليم    بعد توقّف دام قرابة العامين : المسلخ البلدي بقبلي يعود للعمل    حي هلال: الإطاحة بمروجيْ مخدرات وهذا ما تم حجزه..    خلال زيارة أداها إلى القيروان رئيس الجمهورية يأذن بترميم الفسقية    محتوى مخل بالاخلاق على "التيكتوك": القانون التونسي سيطبق على هؤلاء..#خبر_عاجل    الإعلان عن جوائز الدورة 19 من مهرجان أيام السينما المتوسطية بشنني    تتويج تونسي في الدورة الرابعة من مهرجان أيام كربلاء الدولي للمسرح بالعراق    الاتحاد الأوروبي لكرة القدم يتعهد باستثمار مليار أورو لتطوير الكرة النسائية    فلكيا.. متى يبدأ شهر رمضان2025 ؟    عاجل/ رئيس الدولة يكشف عن عملية فساد مالي واداري في هنشير الشعّال..    في لقطة مثيرة للجدل: ترامب يصل إلى تجمع انتخابي بشاحنة قمامة    صور وفيديو: رئيس الجمهورية في زيارة غير معلنة إلى هنشير الشعال وبئر علي بن خليفة والقيروان    رئيس الجمهورية يؤدي زيارة غير معلنة إلى "فسقية الأغالبة" بولاية القيروان    مفزع/ منظمة الصحة العالمية: 8 ملايين شخص أصيبوا بالسل الرئوي في 2023    عاجل : وفاة الممثل المصري المشهور مصطفى فهمي    لا تنهدش .. كنت يوما صديقي .. اليوم تيقنت اننا لا يمكن ان نواصل …عبد الكريم قطاطة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عائدة من الأردن: «الشروق» في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين (1) : سنرجع يوما الى... حيّنا...
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

عمان (الشروق) من مبعوثتنا الخاصة فاطمة بن عبد الله الكراي:
عندما نقدّم أن الاردن بلد حدودي لفلسطين، فإن المعنى الذي يقفز للاذهان ليس ذي طابع جغرافي فحسب، بل إن كل الاردن تاريخا وجغرافيا وحضارة تحس أنه معني بالقضية الفلسطينية وبمأساة الشعب الفلسطيني... صحيح أن الانصهار بين الاردني والفلسطيني بلغ ما لم يبلغه في البلدان العربية الحدودية لفلسطين أين يمكنك رصد مخيمات اللاجئين، التي إن لم تجعل دمعك يسيل من شدة الأسى فإنها على الاقل تجعلك تئن بصمت تحت سياط الحقيقة: حقيقة شعب مشرّد بقرار أممي وبسطوة الصعاليك... إذن قلت إنه صحيح أن نسبة التمازج بين الاردنيين والفلسطينيين بلغت حدّا لا تقدر أن تسأل وأنت مرتاح إن كان الذي يحدثك أردنيا من الاصول أم هو فلسطيني الجذور، لكن هذا لا يمنع خصوصية القرار 194 الذي ينص على حق العودة للاجئين الفلسطينيين وحقهم في التعويض... ومظهر ذلك تجده مجسّدا في مخيّمات البقعة والحسين والوحدات والزرقاء وغيرها من تلك المنتشرة عبر الاراضي الاردنية يحاصرهم الاسى، لكنهم على العهد (عهد العودة) باقون...
لا أدري كيف أن هؤلاء اللاجئين، وكلما اقتربت منهم في مختلف المخيمات من سوريا الى الاردن، يخامرني سؤال وحيد: ألا يندى للانسانية جبين على ما فعلته بهذا الشعب؟ ألم تدوّن بنود الاعلان العالمي لحقوق الانسان شفاء لمعضلة المس والدوس على حقوق الانسان وكرامة البشر؟ هذه الاسئلة وغيرها، كثيرا ما يغفلها أهل الذكر... وأهل الذكر هنا هم جماعات حقوق الانسان الذين لا يرون من هذه الحقوق سوى ما يريد مموّلو منتدياتهم وملتقياتهم أن يبصروه...
والحقيقة، وبعد تجربة متواضعة جدا في جولات لي بمخيمات اللاجئين، رصدت أمرا ملفتا: تلك المرارة الممزوجة باحتقار لكل أولئك الذين يدّعون النضال وصون حقوق حتى القطط ماعدا أولئك البشر الذين صادفت من مخيّم لآخر... الى حد أصبح فيه هؤلاء اللاجئين ومن جميع المستويات التعليمية والاعمار، قانطين من إمكانية هبّة تنصرهم...
في مخيّمي «البقعة» و»الوحدات» وهما من أكبر المخيمات الفلسطينية بالاردن، واصلت السؤال الذي وضعته منذ أربع سنوات خلت أو يزيد، في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بسوريا: كيف كانت ليلة الخروج من فلسطين؟ وتحت أية تعلّة شرّدوهم؟...
هذا السؤال باعتقادي أهم بكثير من محاولة البحث في الظروف المعيشية للاجئين الفلسطينيين، نظرا الى أن الاول يعنَى بالاصل والثاني لا يهتم إلا بالفرع... ونحن كعرب علمتنا الظروف، أو نرجو أن تكون علّمتنا، أن نهتم بالاصل في أية مشكلة أكثر من اهتمامنا بالفروع والتفاصيل...
اليوم الاول الذي خصصته لزيارة مخيم فلسطين في عمّان، كان من نصيب مخيم «البقْعَا»... هو من أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الاردن، والتي يصل عددها 13 مخيما... الاحصائية الرسمية للاجئين بالاردن يصل الى مليون وسبعمائة ألف لاجئ... هذه إحصائية الاردن الرسمية... لكن في حين يعدّ مخيم البقعا رسميا ومنذ عشر سنوات الى الآن 70 ألفا فإن «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونوروا) تعدّ 120 ألفا... مصادر قريبة من شؤون اللاجئين الفلسطينيين في الاردن تقول إن المسألة مرتبطة بقضية الانتخابات وتمثيلية العنصر الفلسطيني في المشهد السياسي الاردني، وهو للأمانة، أكثر مشهد عربي متاخم لفلسطين فيه انصهار وتداخل بين العنصرين الفلسطيني والاردني من الحياة المدرسية العامة الى دفة الحكم والدولة...
ولجت المخيّم وكنت محفوفة بجملة من الشعارات التي كتبت على جدران متآكلة في جلّها، ومواتية أو هي جدران متناسقة مع البنى التحتية للمخيم وأولها الشوارع الضيقة والتي يقلّ فيها الاسفلت ويغيب عن جلها الصرف الصحي... شعارات كتبت ب «الأزرق» وب «الاحمر» حتى يتمكن الداخل والخارج من قراءتها، بتأن لان طبيعة الشوارع الضيقة وغير السلسة تجعلك تأخذ وقتك وزيادة في التدقيق في الشعارات... «لابد أن نعود»... «وطني... وطني»... «لا تخذلوا العراق»... «بوش وشارون سيّان»... هذا جزء مما خطّته أياد جلها بريئة وأصحابها من الاطفال الذين يتهيأون لولوج مرحلة الشباب...
الصورة نفس الصورة... والمشاهد هي نفسها والمنازل في المخيم هي نفسها... التي رأيتها ودخلتها وتحادثت مع أهلها في مخيمات سوريا...
بل في لحظة ما في الحديث مع عائلة «الحاج بدوي عبد الله حسن جبر» ظننت نفسي أنني بمخيم من مخيمات الفلسطينيين في سوريا وليس بالاردن... عندها كانت قد غابت عني حقيقة مرة: بل الناس هم أنفسهم... هم فلسطينيو «48» الذين شرّدوا بنفس التوقيت وباتجاهات مختلفة... اللاجئ هو نفسه لكن البلد الحاضن هو المتغيّر... لذلك ينتابني نفس الشعور وأنا أدخل منزلا بمخيم «البقعا» كما مخيّم «الوحدات» في الاردن وكما كنت في بيوت الفلسطينيين اللاجئين في مخيمات «جرَمانة» و»فلسطين» و»اليرموك» بسوريا... القصص هي القصص... والاطفال هم أنفسهم الذين حاكيتهم هناك وهنا... سألت جمعا من الاطفال بادروني بالبسمة في مخيم «البقعا» كما سألت من قبلهم أطفال مخيم «فلسطين» و»جرمانة» و»اليرموك»: «هل تريدون العودة الى فلسطين؟» فكان الجواب جماعيا وبنفس الصوت: نعم... نريد أن نعود»...
وعندما أسألهم مداعبة الذاكرة الغظّة التي تسكن في قلب رأس كل منهم: «وما فلسطين؟» فيردون في حماس أقوى من الاول: بلدنا...
فهل يمكن أن يسقط «الجبابرة» حق العودة من القاموس الفلسطيني؟ وعن أية تسوية يتحدثون، وهاجس الوطن ساكن أبدا في سيكولوجية الفلسطينيين أبا عن جد... وحفيد عن أب عن جد؟...
الحاج بدوي عبد الله حسن جبر استقبلنا ببشاشة، حيث كان قد اتصل به أحد الزملاء الصحفيين من أبناء المخيم السابقين من أن صحيفة «الشروق» التونسية تريد أن تلتقي به وبالعائلة لتأخذ شهادته عن العصر... عن الجريمة في ليلة الخروج من فلسطين. فرحّب... ودخلنا فكان محفوفا بأبنائه وزوجته... ابتسم «الحاج بدوي» وقد بدت تجاعيد وجهه بمثابة لفائف الورق التي تحفظ الذاكرة من التلف والقصة من الضياع والحقيقة من المسخ... فقال وهو يعرّف بنفسه، إنه من «عنابة» قضاء الرملة (وليس الجزائر وهو يمزح)... من مواليد 1933، شهد تفاصيل التفاصيل بذاكرة طفل عايش كل الحدث... لكن الحاج بدوي الذي تذكّرك قامته الطويلة بنخلة عالية، آثر أن يبدأ الحكاية من البداية... والبداية بالنسبة له، ليست ليلة الخروج من فلسطين... بل من العهد البريطاني (الاحتلال أو ما يسمى الانتداب) في فلسطين، والذي يقول محدثي، سهّل هجرة اليهود الى فلسطين... ويتذكر الشيخ بدوي، كيف أن هذه الجريمة البريطانية، واجهها أبناء فلسطين بالاضراب الشامل والمتواصل لستة أشهر ليس فيها «لا بيع ولا شراء ولا رايح ولا جاي» احتجاجا على حكومة بريطانيا لانها فتحت باب الهجرة لليهود... وهنا تأسست ثورة 1936 التي اندلعت ولم يكن «الحاج بدوي» ليتجاوز عمره الثلاث سنوات... لكن فهمه فيما بعد لقضية فلسطين برمتها وللنكبة بتفاصيلها احتاج فيه الى سند أو إسناد تاريخي حتى يفهم أصل الحكاية وسبب الجريمة... جريمة التهجير... «كان العسكري البريطاني وهو على الطريق، يعترضه الفلسطيني ويختطف منه بندقيته» ويقاتله... بل ويقتله، «فأصبح القادة العسكريون البريطانيون يربطون السلاح على حزام العسكري منهم حتى لا يختطفه منه المناضل الفلسطيني الذي تفطن بأن المؤامرة قد بدأت وهي أكبر من الفلسطينيين جميعا... شهد الجيش البريطاني دخول اليهود المتطوعين (نساء ورجالا) في صفوفه، ولما اشتدت الثورة العربية التي بدأت في 1936، كان البريطانيون يهيؤون خروجهم أو انسحابهم من فلسطين بعد أن هيأوا المشهد الفلسطيني لليهود حتى ينقضّوا عليه «وكان البريطانيون يخرجون بأيد شاغرة وأحزمة خاوية من كل سلاح»...
لكن أين السلاح البريطاني؟... هنا رد محدثي الذي قطّب جبينه قليلا وهو يتذكر المحنة الاولى التي كان قد قصّها عليه جده الذي تولى تربيته: «سلّموا كل المعدات لليهود وكل الاسلحة والذخائر سلمها البريطانيون لليهود الذين سهّلوا عليهم غزوهم لفلسطين جماعات متسترة... ثم بعد ذلك يسلم البريطانيون المعسكرات شاغرة من كل معدات أو أسلحة للجانب الفلسطيني» إنه الخبث البريطاني الذي لم يتغير... فهم فعلا أصل البليّة كما يقول السيد بسام العزة أحد أبناء المخيم ممن كوّن نفسه وأضحى من أكبر رجال الاعمال العرب... عائلته تملك نصف مطار اللد في فلسطين المحتلة، وخرج أهله مقهورين كما خرج آلاف الفلسطينيين في ليلة حالكة لا يحملون معهم سوى أرواحهم وأجسادهم... وعلى اعتبار أن حمل الادباش ليس له معنى لانهم... راجعون!
لما اندلعت الحرب بين اليهود والعرب يضيف الحاج بدوي، كانت بريطانيا دارسة نفسية العرب... ما الذي يقهرهم وما الذي يخيفهم... هم يعرفون أن العرب لا يهابون الموت... وأن تاريخهم حافل بالبطولات والتضحيات... لذلك ركّزوا على ما يقهر العربي ويجعله يرتجف من الخوف: «البنات والحريم» العرب يخافون على أعراضهم من الانتهاك... فكانت العصابات الصهيونية يقودها أو يدلّها عسكري بريطاني يدخلون على القرية الفلسطينية ويأتون الفاحشة في نسائها ويقتلون رجالها... وتكون بذلك العبرة لمن يعتبر... وهكذا، يقول محدثي كانت «دير ياسين» فقلت له: وهكذا كانت الامور في سجن «أبو غريب»!...
أصبح رب العائلة مسؤولا أمام هذه الاعمال الاجرامية، لذلك يعمل على النجاة بعرضه وليس بجلده...
قبل «دير ياسين» وما جرى لها... كانت المرأة الفلسطينية تقتفي أثر المجاهدين تلاحقهم بالماء والخبز... لم يكن هناك رعب أو خوف... كل هذا تأتّى من مذبحة «دير ياسين» التي يجمع الفلسطينيون على أنها كانت الحدث الابشع الذي أراد منه الصهاينة تهجير شعب فلسطين بالجملة...
يتذكر شيخنا الوقور الذي ذهب مع زوجته منذ سنوات قليلة الى العمرة وكانت دعوات «أب» و»أم» عبد الله هي الرجوع الى فلسطين...
غادر فلسطين في غمرة التهجير وهو في الثانية عشر، فكان يتذكر كل صغيرة وكبيرة... «بنات «حيفا» و»يافا» كن مدنيات متحضرات، وكنت تجدهن في الجبال والدم يسيل من أقدامهن... فرارا على الاقدام مع العائلة الى خارج الحدود... لقد عاثوا في فلسطين فسادا والله شاهد على ما اقترفوه من كرائم ونحن الفلسطينيون نحفظ أبا عن جد كل هذه التفاصيل... تفاصيل المظلمة ونرويها لابنائنا... هكذا كانت تتحدث عجوز فلسطينية كانت تقطن في مخيم الوحدات وانتقلت مع ابنها وعائلته منذ مدة قليلة الى أحد أحياء عمّان...
يقول الشيخ «أبو عبد الله» إنه لم يعد الى الرملة (فلسطين 48) منذ غادرها في أكبر عملية تهجيز وسطو من اليهود على فلسطين، لكنه يقسم أنه اذا رجع الآن الى «يافا»، «فإني سأسير فيها شارعا شارعا ولا أتوه عنها»... يواصل محدثي: كنت أعيش مع جدي الذي أحمل لقبه، لان والدي متوف وأمي تزوجت ورحلت الى بلدة أخرى... ليلة الخروج أتذكرها جيدا، وأكثر ما يراجعني من صور هي تلك الاعداد الغفيرة من الناس الذين ينامون في العراء وكانت الطائرات اليهودية (التي أعطاهم إياها البريطانيون) تقصف الناس عشوائيا للارهاب والتخويف وللتعجيل بالخروج... خروج أبناء فلسطين من ديارهم... كانوا يهاجمون القرى ليلا»... والحقيقة فهم لم يتبدّلوا ولم يغيّروا من سياستهم فمازالوا يفعلونها مع رفح ومع «جنين» ومع كل القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية المستعصية... اليوم عن مخططات الابادة والتهجير التي تقوم عليها سياستهم...
يواصل محدثي وقد انتبه أبناؤه الثلاثة الذين حضروا اللقاء وكأنهم يجددون السمع لتفاصيل يعرفونها، لكنها الآن تقيم في أذهانهم تواتر أحداث المجرم فيه هو نفسه والضحية هو نفسه والاطراف الداعمة للمجرم هي نفسها والاطراف المتخاذلة تجاه الضحية هي نفسها... ويقول: خرجنا ليلا من دارنا كما بقية الجيران والاهل... فقد هتف هاتف أن اليهود قادمون... سيقتلون ويعتدون على الاعراض وعلى الارواح...
قضينا الليلة جماعة على قارعة الطريق العام وكان المكان مفترقا
لعدّة طرق مؤديّة لعدّة قرى... المعركة حدثت بالليل والناس أصبحوا من الفجر «هاجين» و»فارّين»... طلعنا على «رام الله» وسكنا البيت في العراء الا من شجرة كانت تغطّي رؤوسنا... «وكان جارنا والد زوجتي (أم عبد الله) قد فتح فرنا بحيث يصحّ للواحد رغيف فقط»... وقبل ان يسلّموننا (الدوائر الدولية) خيمة سكنّا ثلاث عائلات في «عقبة جبر» وكان الطقس صيفا... سنة 1950، أتت لنا «الاونوروا» بخيام... وأصبحت كل عائلتين تسكن خيمة... بعد العزّ والمنزل الكبير... بقينا بأريحا 18 سنة... لم نكن نعلم اننا سنغيب الى الابد عن فلسطين وعن ديارنا التي زرعنا شعارها بأيديناوبناها آباؤنا بكل صبر ومثابرة... أصبحنا دون البشر، في خيام ننام... وحتى مراعاة الاواصر العائلية لم تحترمها الدوائر المشرفة (الاونروا)... فكثيرا ما تجد عائلة مشتّتة على عديد المخيّمات ناهيك ا ننا الان وبعد ان خرجنا كليّا من فلسطين بعدحرب ال 67 أضحينا مشتّتين كعائلات بين البلدان العربية... فأنا عندي عمّتي في لبنان وذاك له اخواله في مخيمات سوريا واعمامه في لبنان وهو وعائلته المصغّرة في الاردن... إنها المأساة التي لم تسبقها مأساة في التاريخ...
يقول السيد نوّاف ع. وهو فلسطيني عاش وغادر المخيّم الى العقبة: ان الله حكم على بني اسرائيل بالشتات لافعالهم... وها هم ينتقمون من الفلسطينيين ويشتّتونهم... بالرغم من أن أكثر المتسامحين معهم وعبر التاريخ هم شعب فلسطين...!». هذه القصة يعيدها على مسامعك اكثر من فلسطيني، ومن شدّة الحسرة والقهر، يسأل عن الحل فلا يأتي...
يواصل «أبو عبد الله» شهادته فتذكّر بوجودي زيارة بورقيبة الى أريحا... ولما شاهد الناس كيف يعيشون وتلك الطوابير الطويلة من أجل رغيف قال بورقيبة: ما هذه العيشة التي تعيشون... هل أنتم راضون بها؟ فقال الجميع: لسنا راضين لكن ما العمل؟ فقال اذا كنتم راضين بها مافيش مانع «تصطلحوا» مع اليهود... فقال الحاضرون انه خائن وضربوه بالطماطم...
لكن بعد هذه الفترة، أقول أنا الذي عايشت عذابات شعبي وأبناء وطني... أن بورقيبة كان أكبر سياسي في الوطن العربي...
لكن بقطع النظر عن الموقف الحقيقي في تلك الحادثة، فلابد من الحذر حتى لا تؤخذ حادثة الامس بعيون اليوم... كل شيء مختلف... والمواقف يحكم عليها من بيئتها ومن ظروف الادلاء بها وليس بطريقة الاسقاط السياسي...
في المخيّمات الفلسطينية، الجميع يقفل اقواله او شهادته او احكامه على عملية التهجير والسطو على فلسطين بقوله: ان بريطانيا هي التي جلبت البلية لفلسطين والآن اضحت اسرائيل هي اقوى من بريطانيا... يشدّد «الحاج بدوي» وزوجته معه ايضا على «أننا تركنا الحب مكوّما في الحقول... كان الوقت وقت حصاد... تركنا بيوتنا عامرة... تركنا زيتوننا في اشجاره ولم يحن قطافه بعد... تركنا (الشوالات) أكياس الحبوب جاثمة على الارض... في المزارع... كنّا نعتقد أننا سنرجع بسرعة... واذا بنا بقينا الدهر كله... لكننا لن نقنط من رحمة ربّنا وسنرجع يوما باذن الله»...
عند الشيوخ في المخيمات اعتقاد راسخ ان ا بناءهم واحفادهم لن ينسوا فلسطين التي رسخت في ذاكرتهم من الحكايا...
تقول أم عبد الله: أحسسنا بالغربة لما غادرنا فلسطين... ويؤكّد «أبو عبد الله نفس الكلام».
لكن السيّد بسّام العزة، رجل الاعمال الذي لم ينسه ماله فلسطين التي لا يعرفها، إن الطفل الفلسطيني الذي يولد بالمخيّم يولد غريبا... ويحسّ بالغربة كلّما كبر وتقدّم في السن... لأن قصّة الخروج من فلسطين وقصص الحقّ الوطني والحق التاريخي لنا في فلسطين نرضعه في حليب أمّهاتنا... ونكتبه على جدران بيوتنا المتواضعة في المخيّم...
وتبدأ المعاناة الاكبر في المخيّمات... بيوت من «زنك» بعد الخيام... ثم شيئا فشيئا اضحت للناس (اللاجئون) بيوتا من اسمنت... شوارعها كما غرفها غير شاسعة... أرض المخيّم اخذتها «الاونروا» ل 99 سنة (ب 50 دينارا الدونم) في شكل ايجار للوكالة... لقد سارع المجتمع الدولي الى بناء المخيمات والشوارع وكلها كانت مهيأة لكنهم (أعضاء المجتمع الدولي) لم يسارعوا لنجدة ابناء فلسطين يعيدونهم بالقوّة...
أبو عبد الله وفي فترة من الحديث الذاكرة، تحوّل امامي فجأة الى طفل بريء يتيم الاب... مدلّل عند الجدّ... فوجدته بعد سؤال غير ملحّ عن الذاكرة وما بقي مطبوعا بها يقول: بكينا كثيرا عند الخروج من دارنا.. جدّي وأخوالي وجدّتي كانوا يبكون ا لنكبة وأنا كنت ابكي اعزّ شيء عندي خلفته ورائي... حجر كبير مدوّر و(سيدي) جدّي تولّى حفر بطن الحجر بحيث تحوّل جوفه الى وعاء وضعه في الحائط الخارجي للدار وملأه بالماء وكان الرايح والجاي يشرب منه ويبعث دعاء الرحمة على الوالدين... كان الماء في ذاك الوعاء الذي شكله جدّي باردا في الصيف لا تضاهيه مياه احسن ثلاجة...
نسي الرجل نفسه لبرهة وأطلق زفرة عقبتها قولة مغلّفة ببسمة: «يا سلام».
ولمّا استعاد الواقع من الحلم... كشف لي النقاب عن أن هناك من أتاه الى المنزل قبل 4 أو 5 أشهر خلت وقال له لماذا لا تتملّك بهذا المنزل الواسع... وكان منزل «الحاج بدوي» فعلا شاسعا وموقعه جيّد فردّ شيخنا عليه: «أرجع الى بلدي... وأعيش تحت ظل شجرة في العراء... أفضل من قصور الدنيا... وليس هذا البيت فحسب».
** غدا حلقة اخرى من ذاكرة فلسطيني في مخيمات اللاجئين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.