ثم كان من غزو بني هلال ورياح وزغبة وغيرها ما كان، وحدث بعد انتشارهم بين الأمصار الافريقية والمغربية واستيلائهم عليها قهرا واقتدارا.. ما حدث. لكن بمرور الزمن استأنس بعض أولئك البدو بأهالي الأمصار فخالطوهم وصاهروهم، بينما بقي بعضهم الآخر خارج المدن يعيش على الغارات والترحّل. ويوجد بين المؤرّخين من يدّعي أنّ الغزوات الهلالية كانت حملة تعريب ثانية لافريقية، بعد أن أخضعها البربر لسلطانهم وثقافتهم، حتى قيل أن في عهد الدّولة الموحّدية ألزم الجنود بتعويض الدّعاء بالعربية بدعاء خاص بالبربرية يقال له « دعاء الموحّدين». كان بنو هلال أعراب بادية، لغتهم العربية تطغى عليها السليقة، وكذلك أفعالهم وتصرّفاتهم في بعض المواقف، ومن بينها ارتجال الشعر. واذ نقدّم هنا بعض ما وصلنا من ذلك الشعر، مما يحتمل أنه أصليّ – أو منحول على رأي البعض فلإعطاء مثال للخطاب العفوي الذي لم يسبقه ترتيب أو تقنين، والذي قد تكون لغة الحياة اليومية شبيهة به، أو قريبة منه. ونستشهد هنا ببيتين من الشعر قالهما في أواخر القرن الثاني عشر ميلاديا بدران زوج الجازية الهلالية عندما فاجأها تشكو للمرآة زواجها من رجل داهمته الشيخوخة، فردّ عليها بدران مرتجلا أربع أبيات يذكر فيها تفوّق الرجال على النساء في مقارعة الشيخوخة. ولقد تناول الباحث الشاذلي بويحيى (1) تلك الأبيات بالتمحيص، وأظهر أنها أشبه بالشعر البدوي المتداول بتونس في عصرنا، بما فيه من أخطاء نحوية، كقول الشاعر: «أخت أبو علي» عوض أبي علي، وبما فيه من شبه باللهجة العامية كقوله: «احنا» عوض نحن، أو: «ناخذو» عوض نأخذ. و في هذا خلط جديد ينضاف الى اللهجة الشعبية المتداولة، التي وان كانت عربية يومئذ الا أنها غير خالصة ولا واضحة، حسب وصف المقدسي. ربّما أسبغت لهجة الأعراب الوافدين مسحة صفاء على اللهجات المتداولة، وقد تكون تأثرت هي أيضا بالخليط اللغويّ الغالب. لاشيء يثبت لنا هذا أو ذاك فيما ورد من الشهادات طوال القرنين المواليين ، الى أن أتانا ابن خلدون بشهادته في أواسط القرن الرابع عشر ميلاديا. الذي بلغ فيه الاختلاط درجة جعلته يقول (2): «أما افريقية والمغرب فخالطت فيها العرب البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم ، ولم يكد يخلو منهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة، والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأّول أبعد». على أن لابن خلدون في موضوع اللغات العامية رأيا متطرّف يظنّ كثير من الناس انه لم يظهر الا في هذا العصر الحديث، وهو أنه من الممكن أن تستخدم في الكتابة بعض اللهجات العامية القريبة من الفصحى، كلهجات البدو في عصره، والاستغناء عن علامات الاعراب التي تمتاز بها العربية الفصحى بالقرائن التي تستخدمها هذه اللهجات لتحديد وظيفة الكلمة في الجملة. وفي هذا المعنى قوله: «ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد(ويقصد اللغة العامية للبدو) واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الاعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصّها »(3). قد نفهم من كلام ابن خلدون ميلا الى اللهجات التي أشاعها بنو هلال من حولهم، لما فيها من تطابق مع نظريته الدّاعية الى التعويل الكامل على الملكة اللسانية في الاحتفاظ بسلامة اللغة أكثر من تعليم القواعد واتّباع أقوال النّحاة حسب اختلافات مذاهبهم. وهذه الملكة التي يتحدّث عنها انما تنشأ بالحفظ والاستعمال «.. مع سلامة الطبع والتفهّم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب، ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال (...) وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المصنوع نظما ونثرا .»(4) وهذا ما قد يفسّر ميل ابن خلدون الى لهجات البدو بقدر نفوره من أفعالهم . بعد هذه التفاصيل التاريخية التي أدخلتنا منعرجات كثيرة، علينا العود الى ما بدأنا به، لنتبيّن أن ما طرأ من «خلط أو مزج» على لغة أهل افريقية الدّارجة سواء من طرف الرّوم أو الأفارق أو البربر أو الأعراب لم يفسدها، وانما أثراها، ونوّع طرائق نطقها حسب الجهات، وسهّل قبولها الاشتقاق والتوليد، وربّما تبنّي مفردات أجنبية عند الحاجة، وبذلك اكتسبت حيويّة واستجابة سريعة لمتطلّبات الحياة. وكان هذا هو حالها في نهاية القرن السادس عشر والدولة الحفصية على وشك الأفول. 1) بويحيى (الشاذلي)، الحياة الأدبية بافريقية في عهد بني زيري ( بالفرنسية)، تونس1972، ص.320. 2) ابن خلدون (عبد الرحمان)، المقدّمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة2006، ج3، ص.1145. 3) م.ن. تمهيد الدكتور علي عبد الواحد وافي، ج1، ص.152. 4) م.ن. ج3 ، ص.1146.