عندما دخل الرسام بول كلي (1879 1940) الى مدينة القيروان التونسية صحبة صديقيه أوغست ماكّه (1887 1914) ولويس مواييت (1880 1962) هتف «تأسُرني الألوان، لا داعي لمعرفة السبب، إنها تستبدّ بي، أعرف ذلك، ومعنى هذه اللحظة السعيدة أنني أصبحت واللون واحدا... أنني أصبحتُ رسّاما». هذه المدينة التي سحرت بول كلي بفيض ضيائها، وسطوع ألوانها ونقاء أشكالها وجمال معمارها سحرت، بعدهُ، الكثير من الفنانين فسعوا الى اقتناصها في لوحاتهم والإفصاح عن معناها. لعل آخر هؤلاء هو الفنان التشكيلي التونسي المعروف عبد المجيد بن مسعود. أقام هذا الفنان معرضه في رواق المجمّع الثقافي «أسد بن الفرات» بالقيروان وقد جمع فيه عددا كبيرا من اللوحات تختلف، كما سنبيّن، أسلوبا وطرائق أداء، لكنها تدور جميعها حول «مدينة القيروان». في هذه اللوحات يلتقط بن مسعود صورة المدينة من الذاكرة، يعيد صياغتها وتركيبها ليشكّل من خلالها «مدينته» المخصوصة. هذه المدينة رسمها بن مسعود، كما تمثلها في الغياب دفقا من الألوان المشمسة تعكس صورة السماء، وأطياف قبّتها المتلألئة ولأنها وليدة الذاكرة فقد كانت مدنا كثيرة... كل كمدينة رسمها المسعودي بتقنية خاصة، وبأسلوب مختلف. لهذا فنحن، في هذا المعرض، لا نشاهد مدينة واحدة تردّد ولا تتجدد وإنما نشاهد مدنا عديدة مختلفة. التزم الرسام، في بعض اللوحات بقوانين الفن الأكاديمي يريد القبض على خصائص المكان معتمدا فن الرسم الخطي ليسيطر، عن طريقه على اللوحة، مستخدما الألوان في مرحلة ثانية ليمدّها بأسباب الحركة والإيقاع. في هذه اللوحات يتبدى المسعودي في صورة الأستاذ الأكاديمي الذي تشبّع بقواعد الرسم الكلاسيكي فسعى الى نقل التفاصيل والجزئيات بوصفها الشهادة على حذق الصناعة: فنظام اللوحة مستمدّ من نظام الواقع، ومعمارها من معماره، وألوانها من ألوانه، فبين اللوحة والواقع تناظر، بل ثمة تداخل، بل ثمة تماه وتطابق. في هذه اللوحات لم يتصرف الرسام في «الواقع» لم يجرؤ على تجاوزه، فقد احتفظ به بوصفه المرجع، والركن الذي يفزع إليه. غير أن المدينة تبدو في لوحات أخرى أكثر غموضا، يرسمها الفنان غير عابئ بقوانين الفن الأكاديمي مهملا البعد الثالث او العمق، متجنّبا التناظر يقسّم اللوحة إلى نصفين، بحيث لم يستبق الا بعض المفردات المعمارية، تذكّر في بعض وجوهها بالأساليب الفنية التي تقوم على أسلبة الأشكال stylisation اي على الاكتفاء من الواقع ببعض العلامات او الرموز الدالة عليه. لهذا تعمّد استبعاد كل الزوائد والهوامش ولم يحتفظ من المدينة الا بالجوهري: خطوط نقية وأشكال واضحة تقول المدينة بأبلغ الأساليب وأقرب الطرق. وفي لوحات أخرى تبدو المدينة مجرّدة حيث تتحوّل الى مجموعة من الألوان والأشكال تسبح في فضاء ضبابي تتلامح داخله مفردة معمارية أو بعض مفردة. والواقع ان المدينة في هذه اللوحات باتت «ذريعة» يتوسل بها الشاعر ليبرز «لغته» وأسلوبه وطريقته المخصوصة في البناء والتشكيل. هذه اللوحات لا تحتوي على مشهد تريد ان تبلغها للمشاهد كما لا تحتوي على «رسالة» تريد إيصالها إليه... هذه اللوحات هي من قبيل الإبداع الحرّ، المبادرة فيها للألوان تتحرّك حركتها الحرة دون ان يقيّدها هدف معلوم او توجهها فكرة مسبقة. وتعدّ هذه اللوحات في اعتقادنا، من أجمل ما ضمّ هذا المعرض من لوحات، وأولاها بالعناية والتأمل. لقد تنوّعت التقنيات وتعددت في هذا المعرض وهذه التقنيات ليس لها من غاية سوى «اقتناص» روح المدينة، حقيقتها المتوارية خلف عدد لا يحصى من الحجب، فغاية الرسّام ليس رسم صورة المدينة وإنما رسم معناها، وهذا المعنى هو الذي ظلّ يلاحقه في مختلف اللوحات ويسعى الى الظفر به! ومهما يكن من أمر فإن هذه اللوحات تصوّر حركتين اثنتين، حركة ارتداد الى الوراء، بحيث تتحول اللوحة الى شبكة يقتنص داخلها الرسام ما تبقى في ذاكرته من فتات الصور وبقايا المشاهد، وحركة تطلّع واستشراف حيث تتحوّل اللوحة في غموضها وضبابيتها الى دعوة الى الحلم والتأمل والاستغراق لكن على الرغم من هذه الحركة المزدوجة التي تنطوي عليها اللوحات فإن هاجس بن مسعود يظل واحدا وهو التوسل بالفن للتصدي الى الزمن يلتهم كل الأشياء: المدينة، ألوانها، زخارفها... وما هذه اللوحات الا محاولة للوقوف في وجه الزمن، إمساكه من قرنيه ومنازلته.