تفاعلت قضية استقالة المذيعات الخمس لقناة «الجزيرة» الفضائية ليتضح أن أسبابا عميقة كانت وراء هذا «الهروب الجماعي»، ففي الوقت الذي ظن فيه الكثيرون أن مدير القناة وضاح خنفر سينفذ إرادته على الجميع حتى لو أدى الأمر الى قبول استقالات لينا زهر الدين ولونا الشبل وجلنار موسى وجمانة نمور ونوفر عقلي إذا بقرار مفاجئ يصدر بإقالة أحمد الشيخ، رئيس تحرير القناة والشخصية الثانية فيها، ومعه نائبه أيمن جاب اللّه، المتهم بالتحرش بالمذيعات والذي صدر بيان رسمي من قبل ينفي التهمة عنه. وفي تقرير شامل نشرته صحيفة «الأهرام ع الهوى» المصرية، أكدت المذيعات الخمس خبر الاستقالة بالفعل، لكنهن تحفظن على التعليق على الأسباب الحقيقية للاستقالة، مشيرات الى أن بعض ما نُشر لمس الجرح بالفعل. ورغم تقديم الاستقالات إلاّ أن المذيعات الخمس لازلن يعتبرن أنفسهن داخل جدران المؤسسة حتى يتم قبول الاستقالات، وحتى ذلك الحين فهن يحافظن على أسرار المؤسسة التي تمثل لهن بيتا عملن فيه لسنوات طويلة، إلاّ أن البعض منهن أكد أن مسألة تقديم الاستقالة بهذا الشكل توحي قطعا بأن الكيل قد طفح. ويُذكر أن المذيعات الخمس قد تقدمن باستقالاتهن دفعة واحدة، اضافة الى اثنين من محرّري غرفة الأخبار وهما عرار الشرع وإسلام صالح. أسرار وخلفيات وفي الوقت الذي تأكد فيه أن سبب استقالة عزار الشرع وإسلام صالح هو حصولهما على عرض متميز من قناة «الحرة» الأمريكية للعمل بها فإن الثابت أن استقالة المذيعات لم تكن بسبب تلقيهن أي عروض عمل من قنوات أخرى. وإنّما ناتجة عن حالة الغضب الذي تراكم بسبب التدخل في شؤون العمل وبعض الشؤون الخاصة بمظهر المذيعات وفقا لما يتردد من بعض المطلعين على الأمور. وقد اعتبر كثيرون في الدوحة وخارجها أن قرار اقالة رئيس التحرير ونائبه يعد انتصارا للمذيعات على نوايا وضّاح خنفر الذي كان يريد صبغ القناة بالصبغة الاسلامية والذي اعتمد وسائل كثيرة وغريبة أدّت الى تنفير عدد كبير من العاملين بالقناة منها ومغادرتها. وبات من شبه المؤكد أن هذا القرار سيهز الكرسي الذي يجلس عليه رئيس القناة وربما يلغي كل قراراته السابقة بشأن المظهر والملابس والماكياج التي كانت سببا رئيسيا في استقالة المذيعات الخمس المعروفات أصلا بالبساطة في المظهر. ومهما اختلفت أسباب الاستقالة يبقى الأمر في النهاية يمثل محاولات جماعية للخروج من القناة والهروب من شيء ما يحدث داخلها، ويدعو العاملين فيها الى الفرار، ولكن ما يحدث اليوم يبدو أنه ليس وليد ظروف طرأت على القناة مؤخرا وإنما هو يحدث منذ سنوات طويلة وتحديدا منذ عام 2004، حيث تغيرت سياسة «الجزيرة» تماما وبدأت تنحرف عن التقاليد المهنية الراسخة التي بدأت بها، والتي شكلت أساسا راسخا جعلها تصمد أمام هجوم أنظمة ودول بالكامل عليها. والآن هناك مجموعة من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي تحوم حول هذا التغيير الجذري في سياسة القناة وتركيبتها وتوجّهاتها، ماهي هذه التغيرات، وما هي أسبابها؟ وما الذي حدث ل«الجزيرة» وهل استطاعت «الجزيرة» كإدارة أن تحفظ الجميل لمن أسسوها وكانوا أعمدتها القوية التي قامت عليها؟ «الناجون» يتحدثون اعتبر أكرم خزام الذي يعدّ واحدا من مؤسسي قناة الجزيرة ان القناة تحوّلت منذ 2001 الى أداة في يد النظام القطري لتصفية الحسابات مع الدول الأخرى ومن بينها مصر بل إنها أصبحت أداة لتنفيذ القرارات السياسية التي يمليها الامير القطري وهو ما بدا واضحا في تغطية الحرب على غزة، وإذ وقعت في فخ «التطبيل» وتجاهلت همجية ووحشية الجيش الاسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني . من جهته رأى الصحفي محمد العبد الله الذي التحق بقناة «الجزيرة» أواخر عام 1997 كمراسل لشؤون دول البلقان انه تم منذ 2004 تفريغ القناة من معظم الشخصيات الاعلامية البارزة والتي كانت تمثّل علامات الجزيرة المضيئة فمنهم من قدّم استقالته ومنهم من أقيل ومنهم من تم فصله بشكل غير مفهوم. وأضاف العبد الله ان انتقال إعلامي من محطة الى أخرى امر طبيعي... ولكن اللافت للنظر والمثير للتساؤل بالفعل ان يتم التخلي عن عدد كبير من المراسلين... بعضهم اشيع عنهم ما يضر بسمعتهم الاخلاقية والمهنية وكأنهم يحاولون تدميرهم على الرغم من ذلك لم تقدّم الادارة الجديدة أحدا للمحاكمة بتهمة واضحة بل اكتفت بالتشهير ولو انها كانت تمتلك دليلا على فساد او خطإ كبير ارتكبه أحد لكانوا قدموه للقضاء.. أما حافظ الميرازي الذي بدأ عمله مع «الجزيرة» كمدير لمكتب واشنطن عام 2000 فقد تحدث بعد تقديم استقالته بفترة في مقابلة صحفية حول تجربته مع «الجزيرة» قائلا: «منذ اليوم الاول لعهد وضّاح خنفر تجلى التغيير في المحطة خصوصا من حيث اختياره مساعدين ينتمون في غالبيتهم الى التيار المتشدد، وقد عبّرت عن تحفّظي مرارا على السياسات المترتبة عن هذا التغيير ولا سيما أن «الجزيرة» تخطّت الخط الاحمر، وقد كنت حريصا على ألاّ تتحول القناة الى تلفزيون «حماس» مع تقديرنا لهذه الحركة المقاومة الشريفة التي تقوم بدور نضالي، ولكن هناك فرق بين تلفزيون ناطق باسم «حماس» وبين قناة «الجزيرة» التي يجب ألاّ تلعب على نغمة «الشارع عاوز كده» لأن من شأن ذلك أن ينسف كل المعايير المهنية. ومن جهته أكد المدير السابق لمكتب الجزيرة في باريس ميشيل الكيك تعرضه لسلسلة طويلة من المضايقات ومحاولات التهميش والإبعاد التي وصلت الى حدّ سحب كل الصلاحيات منه كمدير لمكتب القناة.. اذ لم يكن قادرا على توجيه انذار او معاقبة موظف مخطئ ولا التوقيع على الأوراق المالية الخاصة بالعمل... حيث ارسلت الإدارة في قطر مسؤولا إداريا عام 2006 اوكلت له المسؤولية المالية والإدارية بالكامل. وأضاف انه عندما لم تؤد كافة هذه المحاولات الى تقديمه الاستقالة قامت إدارة «الجزيرة» بفصله فصلا تعسفيا بعد اتهامه بتهم روّجوا لها في الصحف منها تهمة شرب الخمر وأخرى تتعلق بمخالفات مالية وثالثة بضعف مستواه المهني وتدني مستوى العمل الذي يؤديه والتقارير التي يرسلها مقارنة بزملائه الآخرين. وشدد على انه متمسّك بحقه بالتعويض المالي الكافي عما حدث له من أضرار بالغة وما حدث ايضا لفريق عمل كامل كان معه بالمكتب قبل فصلهم جميعا. ولم يكن ميشيل الكيك فقط هو الذي تعرض لحملات التشهير بعد محاولات «الطرد» التي مارستها الادارة الجديدة ل«الجزيرة» ولكن هناك الكثير من الاسماء ممن تضرّروا من هذه السياسة ومنهم يوسف الشريف الذي عمل كمراسل ومدير لمكتب «الجزيرة» في تركيا، والذي تم التخلص منه بطريقة غير لائقة حيث اتهموه باختلاس أموال خاصة بالمكتب تحت بند «مصاريف». ورد الشريف بأن هذه المبالغ كانت تُدفع لمسؤول أمن تركي كبير يقوم بمساعدة المكتب في تسيير العمل هناك. وأكد الشريف أن إدارة القناة القديمة كانت على علم بذلك، ولم يكن أمام الادارة الجديدة إلا أن تنكر ذلك وتدعي كذبه، ولم تكتف الادارة بفصله بهذه الطريقة، ولكن إمعانا في التشهير وجهت خطابات رسمية الى كل السفارات المعنية تفيد بأن الشريف تم فصله لاسباب أخلاقية تتعلق باختلاسات مالية.