بقلم ابتسام خليل: استاذة مبرزة في اللغة العربية وآدابها اختار لطفي الشابي لنصه هذا العنوان المغري المخاتل في آن واحد: ما لم يقله الشاعر، فهل هو الاحتفاء بالوجه الاخر للشاعر والشعري؟ ومن يكون هذا الشاعر الذي سينطقه لطفي الشابي بما لم يقله في شعره، وربّما لا صلة له بما عاشه؟ ألم يورّط المؤلف القارئ منذ البدء في حبائل اللعبة التخييلية، والنص رواية، عتبة أولى أرادها المؤلف كي ترسم ميثاق قراءة، الى روح أبي القاسم الشابي... صاغ حياته على هدي حلم بهيّ عصي»: هذه العتبة الاولى والعتبات الثلاث (ص 9) يستوي الاهداء (وغاب سريعا كومضة نور ص 7). من لقاء ابني العمّ، وهما في الآن ذاته رفيقا طفولة، يأخذنا لطفي الشابي الىواقعة غريبة عاشها ابن العم في المتخيّل، في لحظة صحو ذات فجر على غير العادة، وكان الحاسوب في حالة اشتغال، وقد نبّهت شاشته الى رسالة وحيدة «بدت غريبة في شكلها وفي مضمونها». تأخذ الغرابة الأحداث والشخوص الى عالم ينوس بين واقع مألوف بأشجانه واحباطاته، وبين تخييل يتزيّن بثوب العجائب والخوارق، وذلك ما يقحم الشخوص، وكذلك القارئ، في حيرة تزداد اتساعا ورسوخا كلما تقدّمت الاحداث وتطوّرت. ولعل حيرة القارئ أقسى لأنها حيرة مزدوجة يتجاذبها الفنيّ من جهة والمضموني من جهة أخرى. بلقاسم «إماما ودليلا في رحلة بحث قاسية» لقد كان فقد أثر الشاعر أبي القاسم الشابي باختفاء رسالته وامحائها، تعلة ليتخذ السارد رحلة طويلة تنتهي بمغامرة جبلية كاد يلقى فيها حتفه، ولكنه حين ينجو بحياته ينتبه الى فقدان تلك النصوص ويأسى لذلك ألم تكن القصائد وشجون الحديث والرسائل بمثابة كوى ونوافذ للشعريّ والسردي مشرعة على أكثر من أفق ودلالة؟ تعالقت في نص لطفي الشابي ثلاثة ضمائر، هي ضمير المتكلم وضمير الغائب وضمير المخاطب مع هيمنة لضمير الخطاب الذي يحضر في أكثر من مقام ويشي بأكثر من دلالة. وليس يخفى ما ينهض به هذا السرد المعقود على هذا التقاطع المستمرّ لهذه الضمائر، من معاني الغربة والألم ومن أصداء لشعر الشابي في الحب والمرأة وفي غيرهما من مضامين القول الشعري عنده. أما لطفي الشابي، فهو لا يملك نفسه عن الاصداع: «حين أتأمّل الناس لا أجد الا صدى تلك الغفلة ورجع ذلك الوجود القاسي حين رحيلهم جميعا من هذا الوجود تلك الصخرة الثقيلة التي ينوؤون تحتها ولا يملكون يلقي بهم في فجاج الألم وشعاب التيه التي لا تنتهي (ص 170)»، فكاكا. ما من ريب أنه تدخل سافر من الكاتب في السياق السردي فيه نزوع لا لبس فيه الى التعليم والتنبيه والتفسير. هل انقلب النص تحريضيا ضد قيم السخافة والجمود والرداءة والمسخ والاهانة؟ وإن كان لطفي الشابي قد وقع في ممارسة ضرب من الدكتاتورية في الكتابة تكبّل التخييل في مواطن كثيرة، فإنه منح نصّه فرادته بجعل الوفاء لأبي القاسم الشابي ثريّا بالوفاء الى أكثر من واحد بفضل لقاءات حضرت في المتخيّل فأكسبته افقا واسعا من التواصل وهو ما يشير اليه «بول ريكور» بقوله: «أليست السردية بافلاتها من هاجس الصراع بوجه الموت، تفتح تأملا ما، مع الاخرين بالزمن على أفق آخر غير الموت، على مشكلة الاتصال ليس فقط بالموجودات الحيّة، بل بين المعاصرين والسابقين واللاحقين».