فيما يحيل الماضي على السعادة، على التوفيق «منذ عام جلس وهو يبتسم للأفق الارجواني البعيد القريب. منذ عام وضع خلف أذنيه مشموم فلّ وأحاط جيدها بعقد من الياسمين» (ص21). اذن ومنذ الاقصوصة الاولى بل والصفحة الاولى وصولا الى اخر أقصوصة الرجل الذي أحرق ثيابه وهذا التباين هما سكّتان يسير عليهما قطار النص القصصي. ففي «حكاية السنور» الزمن عبارة عن محراث يحرث الوجوه. التجاعيد «خلفها محراث الزمن على وجهها ومضى». وفي «نوار الدفلى» يفصح الزمن عن ذاته بقوله: «أنا الزمن الهارب يا سعدية». الغنّام في «طاطا... وين» ربط بين أولاد الحرام وهذا الزمن الفاسد الرديء ص91. وفي «الرجل الذي أحرق ثيابه» نرى ان «الزمان كائن سرابي زئبقي يخرج للمهرولين لسانه ساخرا» ولفشله في اختيار زوجته أشعره الحاضر «بالوهن والوحدة والخوف» وظل الماضي مجسّما في صورة أمه وهو نقطة الضوء الوحيدة في حياته حتى إن الرجل يقول: «يا أمي... يا طفولتي... أين أنت؟» (الرجل الذي أحرق ثيابه ص104) ان التحول من مجتمع زراعي (لن يبقى أحد خارج أسوار المدينة) وبدوي بسيط (حكاية سنور) نحو مجتمع الحداثة (طاطا... وين: الهاتف الجوال أنترنات). وما رافق هذا التغير من تبدل في العلاقات الاجتماعية التي لم تعد تنبني على علاقات عائلية بما فيها من تآزر بل صارت تنبني على تبادل المصالح المنفعية مع تكرّس الصبغة الفردية المتمثلة في الأنا المدفوعة اغرائيا نحو الاستهلاك (الاعلانات، الرجل الذي أحرق ثيابه) إن وطأة هذه التحولات الاجتماعية كان رهيبا على الطبقة الاجتماعية السفلى حتى إن الزمن لاح لها بأنه هو ايضا عدو من أعدائها الكثر فحست بالانسحاق وشعرت بالضياع وترآى لها ان لا حل لديها لمجابهة الواقع سوى بالنكوص عليه واللوذ بعوالم طفولتها الحالمة، وادارة ظهرها للحداثة. «والحداثة وإن كانت ظاهرة غربية انطلقت مع الثورة الفرنسية (1789م) وعنت التغيير في النظام الملكي الى الديمقراطي الذي يقوم على سلطة الشعب والمجالس الممثلة للشعب واعتماد الليبرالية نظاما اقتصاديا والمساواة بين الجنسين على الصعيد الاجتماعي. وإلزامية التعليم للأطفال والانتقال من نموذج الجماعات والطوائف الدينية المتحاربة الى المواطن لا أسس الطائفة او الدين وتذويب الطوائف والاديان في بوتقة مدنية علمانية واحدة لا تميز فيها على أساس عرقي او ديني او علمي وبهذا تكون علاقة المواطن بالدولة لا سلطة أخرى». الاسئلة التي تطرح هنا: كيف لنا ان نصف هذه القصة بأنها حداثة والاخرى لا؟ وهل هذا التصنيف ضروري وممكن أم لا؟ وهل يدخل هذا التصنيف في اطار محاكم التفتيش؟ وبالتالي قد يمس من حرية المبدع؟ ام ان هذه الاسئلة وما جاورها تدخل في حوارية الابداع دفعا لمزيد بث الوعي لدى الباث والمتلقي على سوى. ولأن الحداثة لا تربط بزمن فإن جميع أشكال القصة يمكن ان تكون حداثية. هل يمكن كتابة قصة تعترض على الحداثة بجعلها نكوصية؟ علما «وان الحداثة ترتبط عادة بالتقدم والمجاوزة، ومن ثم فإن التطور في الزمان هو احد أبرز مقوماتها، ذلك ان الحداثة تعني فيما تعني الارتباط بالعصر الاخير المختلف عن العصر السابق» (5). سنرجئ الاجابة عن الاسئلة السابقة لنحلل كيفية مجابهة الشخصيات القصصية التحولات الاجتماعية التي فرضتها الحداثة. الشخصيات القصصية ونصيبها من النكوص أ الشخصيات عامة : إن الشخصيات القصصية شخصيات نكوصية. فالرجل في (مد وجزر) يعود الى المكان ذاته: شاطئ حمام الانف منفردا بعد ان فقد رفيقته وكان قبل عام قد «وضع خلف أذنه مشموم فلّ وأحاط جيدها بعقد من الياسمين» (ص21). في «لن يبقى أحد خارح أسوار المدينة» الشخصية المحورية: الكسيح، شخصية نكوصية. فهو اضافة لكونه صار كسيحا بعد ان فقد ساقه من طرف أعوان الاحتلال عندما كان يحاول استهدافه، اصبح «يبحث عمن يتصدق عليه برغيف خبز بائت وحبات زيتون» (ص42)، وهو الذي كان يتمتع بقامة مديدة (ص42). «سعدية» في «نوار الدفلى» تعيش حالة نكوص ذلك لأنها تحيا حاضرها منفردة وليس لها الا ذكريات شبابها عندما كانت تهب جسدها لمن تشاء. اعترى الرجل الذي أحرق ثيابه احساسا باليتم والاغتراب منذ ان فقد والدته التي كانت تمده بالسند المعنوي خصوصا وان زوجته بحكم طباعها لم تسع ان تعوض له حنان الام بل على العكس من ذلك استهدفته لتعوض السبل المادية والمعنوية (الاهانات والحرمان الجنسي). إن الاستهداف الذي تعرض له الزوج من زوجته مرده «تشبّثه بما تبقى له من مبادئ يعتبرها زملاؤه وزوجته والناس من حوله بائدة. لا مكان لها في هذا الزمان» (ص98). لقد مثّل الزوج لزوجته استثناء منفردا بتمسكه بمبادئه ففقدت هذه الاسرة التآلف والانسجام وعوضها التنافر والتباغض، خاصة وانه قد اقترن بها تلبية لأوامر والدته ومرضاة لخالته. إن الشخصيات القصصية قد تألبت عليها ظروف خاصة وعامة فنزعت عنها الهناء الاسري وهو ما أفقدها الدعامة الأساسية للتماسك فتزلزل كيانها وقادتها أقدارها ان تيعش تحولات اجتماعية اصطبغت بطغيان النزعة الاستهلاكية فأثرت فيها وغيرت من طباعها «والناس من حولك كلهم يرفلون في ثياب على الموضة يلبسونها ان اقتضى الامر بالمقلوب. على وجوههم يضعون لكل مناسبة قناعا. الناس من حولك يتلونون كالحرباء يتلونون. يضحكون لكنهم بمساحيقهم وأصباغهم مبتهجون» (الرجل الذي أحرق ثيابه ص97). وقد تزامن انسحاق هذه الطبقة الاجتماعية الدنيا (الحاجب في الرجل الذي أحرق ثيابه) الغنّام في «طاطا... وين») (سعدية «ربة البيت والعانس نوار دفلى) من تعرض الوطن للاستهداف(لن يبقى احد خارج أسوار المدينة) «بين قدمي جبل شاهد يوما، طائرات مغيرة تدمر احدى المناطق العربية ربما كانت حيفا او أريحا او صبرا وشتيلا وربما كانت منطقة حمام الشط (ص35). (يتبع)