... طوابير من شاحنات الطماطم أمام مصانع التعليب تنتظر ساعات طويلة قبل إفراغ حمولتها، فيضيع جانب كبير من الميزان الاصلي للصابة المشحونة ويفسد جزء آخر منها... طوابير مماثلة لشاحنات الحليب أمام المصانع تنتظر بدورها ساعات قبل تسليم آلاف اللترات التي تحملها على ظهرها، فيفسد الحليب وقد يضطر صاحبه للإلقاء به في أقرب واد... أما منتجو البطاطا فيذوقون أحيانا الأمرّين قبل العثور على حلّ للتخلص من الصابة بأخف الاضرار المادية عوضا عن الالقاء بها في مزابل الطبيعة... هواجس ومخاوف تنتاب من حين الى آخر أكثر من منتج فلاحي في أكثر من قطاع... أما السبب فهو، ويا للعجب، وفرة الانتاج! فتتحوّل الصابة القياسية عندهم «من نعمة الى نقمة» على حد تعبير أحد أصحاب مراكز تجميع الحليب، في حين اعتبر منتج لزيت الزيتون أننا «مازلنا في بعض القطاعات الفلاحية عاجزين للأسف عن التعامل بحكمة مع وفرة الانتاج»... فلماذا هذا العجز؟ هل أصبحت وفرة الانتاج، التي تعني الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي للبلاد، معضلة للدولة وللفلاح فعلا؟ ومن منهما يتحمّل إساءة التصرف فيها؟ ألا توجد حلول مثلى لمجابهة الصابات القياسية التي «تداهم» فلاّحينا سنويا في أكثر من منتوج؟ منذ سنوات أقرّت الدولة خططا عديدة للنهوض بالانتاج الفلاحي بمختلف مكوناته ولتحقيق الامن الغذائي خاصة في المنتوجات الاستهلاكية الحساسة كالحبوب والحليب والقوارص والبطاطا والطماطم وزيت الزيتون والبصل واللحوم والبيض... وتتالت في السنوات الاخيرة الحوافز المادية والمنح التي تشجع الفلاح على مزيد من الانتاج وشهدت كل هذه المنتوجات ترفيعات متتالية في أسعارها عند الانتاج... فكان أن تفاعل الفلاح مع هذه الاجراءات وجاءت النتيجة الايجابية المرجوة: ارتفاع الانتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي في أكثر من منتوج ولم تعد هناك حاجة لتوريده من الخارج مثلما كان يحصل ذلك في السابق وأصبح التونسي بذلك يأكل كل المنتجات الفلاحية تقريبا من أرضه... غير أن محدودية السوق المحلية من جهة وعدم انتظام التصدير من جهة أخرى إضافة الى ضعف طاقة التخزين عوامل أصبحت تدفع بالفلاحين الى «الهروب» من بعض المنتوجات الهامة... هروب أثبتت التجربة الفلاحية خلال السنوات الاخيرة أن ما من منتوج فلاحي تبلغ فيه الصابة أرقاما قياسية إلا وتنزل أسعار بيعه كثيرا... وتلك هي ضريبة قاعدة العرض والطلب وهي تخدم مصلحة المستهلك في كل الحالات... لكن التجربة نفسها تثبت أيضا أن ما من منتوج حقق أرقاما قياسية في صابة هذا الموسم إلا وكانت صابته في الموسم الموالي ضعيفة... وتعود بذلك الامور الى النقطة الصفر والى البحث عن كيفية الرفع من الانتاج مرة أخرى... «من الطبيعي أن لا يعود الفلاح في الموسم القادم الى المنتوج الذي اكتوى به هذا الموسم»... يقول رضا.س (فلاح بجهة بنزرت) مضيفا: «بذلت منذ سنتين كل ما في وسعي لبلوغ إنتاج وفير في البطاطا وعندما جاءت الصابة ندمت على اختياري... لقد بعت آنذاك جزءا منها بسعر شبه رمزي وفسد جزء آخر بعد أن عجزت عن تخزينه... وكل ذلك بسبب وفرة الانتاج في ذلك العام فكيف تريدني أن أعود مرة أخرى للبطاطا»؟ رضا ليس الوحيد الذي اضطر للهروب من غراسة منتوج ما بسبب عجزه عن التصرف في الصابة الوفيرة، بل سبقه وقد يلحقه كثيرون سواء في مجال البطاطا أو الطماطم أو الحليب أو الدلاع أو زيت الزيتون... ويكون الامل دائما البحث عن «قلم» آخر لا تكون فيه الصابة قياسية حتى يحقق الفلاح توازنه المالي المطلوب... عجز يعترف المنتجون الفلاحيون الذين مرّوا بتجربة مريرة بسبب وفرة الصابة أنهم يصابون بعجز حقيقي وتام في التصرف في المنتوج كلما كان الانتاج قياسيا في كامل أنحاء البلاد... ويصل العجز بكثيرين حد التخلص من المنتوج بإلقائه في المزابل بعد أن يفسد «فحتى بيعه مقابل مليمات معدودات للكلغ الواحد يصبح مستحيلا لأنك لا تجد حتى من يشتريه منك» يقول صالح ط (فلاح) مضيفا أنه وجد نفسه في هذه الوضعية عندما زرع مادة «البصل» في أحد المواسم الماضية... شأنه شأن جاره حبيب الذي أضاف: «عجزنا في تلك السنة حتى عن تخزينه في ظروف جيدة... إذ سرعان ما تعفّن واضطررنا للتخلص منه في مصب الفضلات»! مسؤولية عندما تحصل مشاكل بسبب وفرة منتوج فلاحي ما، يتبادل الفلاحون المعنيون تهم التسبب في هذا الوضع مع الدولة... فالدولة تقول إنه كان على الفلاح الانتباه قبل البذر وعدم الاقبال على زراعة منتوج أقبل على زراعته الاغلبية في ذلك الموسم... أما الفلاح فيعتبر أن الدولة هي المسؤولة عن «التخطيط الزراعي» وعن تنظيم خارطة فلاحية حسب حاجياتها من مختلف المنتوجات وتجبر الفلاحين على اتباعها في مختلف جهات البلاد... ويتساءل الفلاح صالح «لماذا لا تتدخل السلط الفلاحية مثلا لتجبر فلاحي جهة أخرى على الاكتفاء بزراعة الطماطم وآخرون بالدلاع وجهات أخرى بالحبوب؟» فبذلك حسب رأيه يمكن أن يكون الانتاج من مختلف الزراعات متوازنا في البلاد ولا تحصل طفرة هذه السنة في إنتاج الطماطم مقابل نقص حاد في البطاطا مثلا أو العكس... فالدولة هي الوحيدة، برأي الفلاحين التي لها نظرة شمولية للوضع الفلاحي العام وبإمكانها أن تقرر وتنفّذ، بالتعاون مع الفلاحين، ما تراه صالحا في هذا المجال. تطور... لكن... في العشرين سنة الاخيرة، تطور حجم الانتاج الفلاحي العام في تونس ب60٪ ولا يزال... ورغم أن ذلك ساعد على تجاوز مشكل الاكتفاء الذاتي، والأمن الغذائي في أغلب المنتوجات، وفقا للمقاييس المحددة من قبل المنظمة العالمية للاغذية والزراعة إلا أن بعض المنتوجات الفلاحية تشذ عن القاعدة في بعض المواسم وتسجل نقصا حادا في الصابة لأن الفلاح «هرب» عنها في ذلك الموسم بعد أن تسببت له في الموسم المنقضي في خسائر (بسبب وفرة الصابة). وعندئذ تضطر الدولة الى توريد ذلك المنتوج بالعملة الصعبة والحال أن أراضينا قادرة على إنتاجه مثلما حصل أحيانا مع البطاطا والطماطم والحليب... آليات في أكثر من اجتماع رسمي أو دراسي حول واقع الفلاحة في بلادنا، يثير المختصون باستمرار مسألة التصرف في الصابات القياسية ويعتبرونها لا تقل أهمية عن جهود الرفع من الانتاج ويجب أن يكون كل منها موازيا للآخر... ومن أبرز الآليات الممكنة يوجد التخزين. فالطاقة التخزينية للمنتوجات الفلاحية يجب أن ترتفع أكثر بكثير مما عليه الآن سواء تعلق الامر بمخازن الدولة أو المجامع المهنية الفلاحية أو الخواص مع ضبط خطة استراتيجية وفنية واضحة تضمن تخزين كل المنتجات بلا استثناء وتضمن أيضا المحافظة على جودة وسلامة المنتوج إضافة الى ضمان شرائه من الفلاح بسعر معقول حتى وإن كانت الصابة قياسية مثلما يحصل هذه الايام مع صابة البطاطا... والى جانب ذلك توجد آلية التصدير... حيث يطالب الفلاحون عادة، عند حلول صابة وافرة، بمساعدتهم على التصدير حتى يضمنوا توازناتهم المالية... فالفلاح يعجز عادة عن التصدير بمفرده ولابد من تدخل الدولة، عبر أهل الاختصاص، لامتصاص فائض الانتاج وتوجيهه الى الخارج، وهو الامر الذي اشتكى منه في السنة الفارطة مثلا منتجو زيت الزيتون... لكن في مقابل ذلك فإن الفلاح مطالب بتحسين جودة منتوجه حتى يجد له مكانا في الاسواق الخارجية. صناعات غذائية خلال ندوة دراسية انتظمت السنة الماضية بمجلس المستشارين حول «الأمن الغذائي والتحديات الجديدة في ظل العولمة» اقترح بعض المختصين ضرورة تعزيز قطاع الصناعات الغذائية بمصانع إضافية قادرة على استيعاب فوائض الانتاج في كل المنتوجات قصد تصبيرها وتعليبها ثم تصديرها في ما بعد أو تخصيصها للسوق المحلية... فكل المنتوجات الفلاحية التي تكون فيها الصابة قياسية في بعض المواسم تقريبا مؤهلة للتصبير والتعليب مثل الطماطم والبطاطا والحليب وزيت الزيتون والغلال والجلبانة والفراولو وغيرها إضافة الى إمكانية استخراج مشتقات هامة منها (مثلا مشتقات الحليب أو تثمين قشور الطماطم لصناعة مواد التجميل...) وأكثر من ذلك، اقترح المختصون ضرورة فتح المجال أمام المستثمرين الاجانب لبعث مصانع غذائية كبرى في بلادنا، وبذلك يمكن ضمان تصدير هذه المنتجات معلّبة نحو الخارج، خاصة أن التجربة أثبتت أن التعليب يعطي قيمة مضافة هامة للمنتوج في الاسواق الخارجية.