بعيدا عن التشنج الذي بدا على ردود الفعل من سلسلة «نسيبتي العزيزة» التي بثتها قناة نسمة ثمة ملاحظات عديدة لابدّ من ذكرها حول هذا العمل.. لقد ركّز الكثيرون على تقليد أهل صفاقس واعتبروا ذلك إساءة لهم وهذا كلام مردود وبحث عن فتنة جهوية لا ندري من يثيرها ومن يضخمها... والأكيد ان صفاقس التي تعج بالمفكرين والمبدعين والمناضلين تفهم جيدا ان تطرق العمل الى أنماط اجتماعية محدودة منها لا يسيء اليها اطلاقا. وأعتقد ان مبادرة هذا العمل بالخروج من اللهجات المتداولة في الدراما التلفزية التونسية (العاصمة والجنوب والشمال الشرقي) والانفتاح على لهجات أخرى في البلاد يعتبر نقطة تطوّر في الدراما التونسية ولا يمكن النظر اليها باحتراز شديد... وليس في الأمر سخرية بقدر ما فيه بحث عن الطرافة وهو مجرد عمل فكاهي يسخر من اشخاص لا من جهة... وأعتقد ان كل ما يدور من أشخاص لا من جهة... وأعتقد ان كل ما يدور من احتجاج هو ضجيج مفتعل... فليست أول مرة تقلد لهجة ما من لهجات البلاد وإن كان موضوع الإضحاك بتقليد اللهجات شاسع ويحتاج الى كلام كثير... وأعتقد ان صفاقس ربحت من هذا العمل فبقطع النظر عما أثارته الشخصيات من ضحك فثمة إشارات متفرقة الى بعض خصوصيات صفاقس مثل الأكلات... بل لابدّ من الإقرار أننا ننتظر مبادرة تصوير مسلسل في صفاقس.. هل غضبت مدن العالم من تصوير أحداث ساخرة فيها او بلهجات أهلها... طبعا لا ولابدّ من تجاوز هذا اللغط .. فبعيدا عن التشنج ومشكلة اللهجة قدمت نسمة عملا حظي بالمتابعة والاهتمام وهو من أفضل الأعمال في النصف الاول. لقد حرص جماعة «نسيبتي العزيزة» على الاضحاك وهذا ما توفّر وتضافرت فيه عوامل عديدة لم تكن اللهجة مهمة بقدر ما كانت نوعية الشخصيات وحركاتها ومواقفها واحقاقا للحق وبالنسبة لي كان هذا المسلسل طبق الضحك الأهم الذي حرصت على متابعته خلال النصف الاول... وزيادة على الضحك فالعمل أثار عدة قضايا نستشفها من تتبعنا لشخصياته ودلالاتها. فاطمة تقمصت هذه الشخصية دور «نسيبة» وهو دور مألوف في الدراما التونسية واستمدت ملامحها من الواقع التونسي عموما فأم الزوجة كانت تأخذ هذا الشكل.. لم تكن فاطمة غريبة فلقد عانى من أمثالها رجال كثيرون ومازال الكثيرون يرزحون تحت توجيهات وأوامر امهات الزوجات وخصوصا الاجيال القديمة فهي امرأة متسلطة تحاول التدبير وتبحث عن السيطرة وتستعمل أنماطا من الدهاء... تلعب دور المحرض والناصح لابنتها والمتدبر لها ولا نكاد نعثر على إضافة لهذا النمط فأم الزوجة كما نعرفها.. فهي شخصية استمدت أنفاسها وسكناتها من الواقع اليومي. حسونة خرج من شخصية السبوعي التي ملها الجمهور الى شخصية أخرى حافظ فيها على ملامح من الشخصية الاولى... يمثل حسونة شخصية الشاب التونسي المتزوّج حديثا وما يتعرض له من صعوبات كما يطرح نموذجا بسيطا في زحام الحياة اليومية. جابالله نموذج الكهل الريفي النازح الى المدينة بما تحمله شخصيته من محافظة وطرافة وانبهار بعالم المدينة وخصوصا الحسناوات ولكنه مشدود الى الماضي الذي تشكله القرية وحبيبته خميسة. فتحية فتاة مسترجلة تشتغل سكرتيرة لدى حسونة تميّزت بتدخلاتها الغليظة وهي نموذج يطفو في المجتمع التونسي. منجي شاب محبط وعاجز ومسلوب الإرادة لسيطرة الأم عليه تداعبه الأحلام ويبحث عن حياته في طبق من الوهم. حياة زوجة حسونة وابنة فاطمة وقد تميّزت بالولاء لأمها وأفكارها في البداية لكنها كشفت عن نوع من التفرد في النهاية واختلفت معها في بعض المسائل لتكون نموذج امرأة تحاول ان تختلف عن الماضي.. باريزا وحجلة أم جزائرية وابنتها في زيارة الى تونس اكتشفت فيها الأم ابن شقيقها التونسي بعد فراق طويل. وهي اشارة ذكية الى العلاقات المغاربية والأخوة القديمة بين الجزائريين والتونسيين. والخلاصة أننا أمام شخصيات مستمدة من الواقع وهي تميط اللثام عن نماذج عديدة في المجتمع وقد وضعنا هذا العمل امام جو تونسي هادئ. يقع المسلسل في اجترار نماذج تكاد تكون مألوفة في الدراما التونسية ولكن يكفينا انه اكثر اضحاكا وأكثر اتصالا بمجتمع الحياة اليومية فلا جرائم خيالية ولا حياة نموذجية.. هو لوحة من الواقع اليومي تلفت الانتباه الى عديد الظواهر مثل النظرة التلذذية للمرأة التي بدت تطغى في الشارع فالكل منبهر بالجمال والحسن كما طرح المسلسل ظاهرة الضيافة بين جشع البعض وكرم البعض الآخر. ملحق «نسيبتي يا رياض».. هكذا وصلني صوت شخصية الفاهم الشاب التقليدي الذي التحق بجاب الله وهو «نسيب عزيز» ايضا.. وكان شخصية طريفة ومضحكة جسدت نمطا من الشباب الغارق في نوع من الأمية والضياع.. «حتى نا... بجاه ربي... يعيشك اكتب علي نا وحجلة» هكذا وصلني الآن صوت منجي الشاب الصفاقسي الذي تميّز بنوع من البراءة ومازال مؤمنا بالرومنسية وتربية العصافير رغم عمره ورغم الزمن وقد ظهر في مواقف مضحكة وانتهى أمره بالولع بالفتاة الجزائرية التي نزلت ضيفة... مرة أخرى أقول ان هذا العمل أعجبني لما فيه من بعد عن التهويل والصخب... إنها حياة تونسية يومية ونماذج اجتماعية مختلفة بعيدا عن حكاية السخرية التي ليست سوى ضجة..