٭ بقلم : د. محمّد العادل (مدير المعهد التركي العربي للدراسات بأنقرة) الإستفتاء الشعبي الأخير في تركيا الذي صوت بنعم للتعديلات الدستورية التي طرحتها حكومة العدالة والتنمية يقرأ فيه المراقبون دلالات عديدة أبرزها أن الشعب التركي قد جدد ثقته مرة أخرى في حكومة أردوغان وسياساتها الأمر الذي يؤهّلها للفوز في الانتخابات المقبلة بدورة ثالثة. ولاشك أن الإقبال الكبير للشعب التركي على صناديق الاقتراع (بنسبة 78 %) يعكس بوضوح مستوى الوعي السياسي لدى الناخب التركي فنتائج الاستفتاء تشير إلى أن قرابة 20% من الذين صوتوا بنعم للتعديلات الدستورية ليسوا من أنصار حزب العدالة والتنمية وهذا يعني أن الناخب التركي أصبح يميّز بين الحسابات الأيديولوجية والحزبية الضيقة والخيارات الوطنية من الواضح أن غالبية الشعب التركي تساند مسيرة الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تقودها حكومة أردوغان ويطمح للمزيد من الإصلاحات من خلال إتاحته الفرصة لحكومة العدالة والتنمية لتنفيذ ما وعدت به كصياغة دستور جديد لتركيا والإنهاء الكامل لهيمنة المؤسسة العسكرية على القرار السياسي وتحديد صلاحيات المؤسسات الدستورية لاسيما جهاز القضاء الرابح الأكبر في هذا الاستفتاء هوالشعب التركي وحركة الديمقراطية والحرّيات فالشعب التركي يستعيد قراره ويطرح خياره بقوة فخطوة التعديلات الدستورية ستمهد لغيرها من التعديلات والإصلاحات لتنهي سنوات من الوصاية فرضتها القيادة العسكرية على خيارات الشعب التركي تحت غطاء شرعي من خلال نصوص دستورية سطرها الجنرالات على مقاساتهم في آخر انقلاب لهم في 12 سبتمبر 1980 . لذلك لم يأت اختيار 12 سبتمبر 2010 كموعد لإجراء الاستفتاء الشعبي الأخير مجرد صدفة من قبل حكومة العدالة والتنمية بل كان رسالة واضحة للقيادة العسكرية تقول فيها بأن هذا الموعد هوانقلاب مدني من نوع خاص يستعيد فيه الشعب التركي ما سلب منه في الانقلاب العسكري عام 1980 ويعيد الجنرالات إلى ثكناتهم . بل إن هذه التعديلات الدستورية التي أجازها الشعب التركي قد فتحت الباب على إمكانية محاكمة القيادات العسكرية التي نفذت انقلابات عسكرية سابقة وقد سارعت منظمات حقوقية تركية إلى رفع دعاوى أمام المحاكم لمحاسبة الجنرالات قضائيا ، قد لا تكون لهذه المحاسبة القضائية نتائج عقابية على الجنرالات السابقين بسبب أنهم استندوا في تنفيذ انقلاباتهم السابقة إلى مادة دستورية أصبحت اليوم تاريخا عقب التعديل الدستوري. لكن توجه المنظمات الحقوقية إلى المحاكم لمحاسبة الجنرالات السابقين تشكل في مضمونها رسالة إلى القيادات العسكرية الحالية وتتناغم أيضا مع ما أشار إليه رئيس الوزراء أردوغان حينما قال «بأن الجميع أصبح معرّضا للمحاسبة وأن لا أحد فوق القانون وليس من حق أي شخص أومؤسسة تنصيب نفسها وصيّة على الشعب التركي وخياراته». لاشك أن المستهدف بشكل مباشر من التعديلات الدستورية الأخيرة هي المؤسسة العسكرية وجهاز القضاء فالتعديلات تسعى إلى انهاء حالة التداخل في الصلاحيات في ما بين المؤسسات الدستورية وقطع الطريق أمام هيمنة القيادة العسكرية على القرار السياسي في أنقرة وإبعادهم عن حشر أنفسهم في الشأن السياسي. أما جهاز القضاء في تركيا فقد كان دوما لسان حال القيادة العسكرية والمؤسسات الكمالية الأخرى وبالتالي أصبح طرفا أيديولوجيا في الساحة التركية وجاءت هذه التعديلات لتحد من تلك الظاهرة وتدخل نفسا جديدا داخل جهاز القضاء من خلال إعطاء البرلمان والرئيس التركي حق ترشيح نسبة معينة من الحقوقيين في المجلس الأعلى للقضاء والمدّعين العموميين. ولعلّ ابرز مكسب للحياة السياسية التركية في التعديلات الدستورية الأخيرة هو وضع شروط صعبة على المحكمة الدستورية التركية تحول أمام حظر نشاط الأحزاب السياسية، لذلك يستغرب المراقبون موقف حزب السلام والديمقراطية الكردي الذي دعا أنصاره من المواطنين الأكراد لمقاطعة عملية التصويت على التعديلات الدستورية مع أنه يعتبر أحد أكثر الأطراف السياسية المستفيدة من هذه التعديلات بالإضافة إلى أنها ستساهم في التوصل إلى حل سياسي وسلمي للقضية الكردية. التعديلات الدستورية ستحقق لحكومة العدالة والتنمية مكاسب داخلية جمّة أشرنا إلى بعضها لكن حكومة أردوغان تعمل أيضا على استثمارها خارجيا لتجعل منها خطوة تتقدم بها في مسيرتها نحو نيل العضوية في الاتحاد الأوروبي لأن التعديلات الدستورية الأخيرة تجيب عن قسم من استحقاقات العضوية كان يطالب بها الإتحاد الأوروبي الأمر الذي يفسر ترحيب الأطراف الأوروبية والأمريكية بها. حكومة العدالة والتنمية تسعى أيضا لاستثمار هذه التعديلات الدستورية لتنشيط الحركة الاقتصادية والتجارية لتتجاوز من خلالها تداعيات الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد التركي، حيث ترى حكومة أردوغان أن نجاحها في الاستفتاء الأخير وما سيترتب عنه من دعم لحالة الإستقرار السياسي سيعزّز حظوظ تركيا في الحصول على نصيب اكبر من الإستثمارات العالمية وسيساهم في تقوية دورها الاقليمي والدولي. لكن الرهان الأكبر اليوم أمام حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان هوالتقدم بخطوات أكثر جرأة لطرح حل سياسي وسلمي للقضية الكردية لتحقيق السلم الاجتماعي وقطع الطريق أمام الأطراف الداخلية والخارجية التي تعمل على استثمار المسألة الكردية وإدامتها ، بالاضافة إلى عدم تجاهل نسبة 42% من الناخبين الأتراك الذين عارضوا التعديلات الدستورية الأمر الذي يتطلّب من أردوغان وحزبه عمليّة توازن سياسية لا تبدو سهلة لكنها مطلوبة في هذه المرحلة لأن الديمقراطية التركية رغم أن ظاهرها تبدو ديمقراطية الأغلبية لكنها في واقع أمرها مدرسة أخرى في عالم الديمقراطيات يطلق عليها الديمقراطية التوافقية وهذا يعني أن حزب أردوغان الذي فاز بنسبة 58 % لن يتمكّن من تمرير كلّ الإصلاحات الدستورية المقبلة ما لم ينجح في تحقيق التوافق مع بقية الأطراف السياسية والمؤسسات الدستورية في تركيا..