بقلم فاطمة بن عبد الله الكرّاي ما يحدث الآن في مشهد ما يسمى بالمفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين و«الاسرائيليين»، هو بالتأكيد حلقة من حلقات تاريخ الثورة الفلسطينية... وكذلك وبنفس الحجم والأهمية، جزء من تاريخ «المفاوضات»... و«السلام» في المنطقة... بل لعله وبشكل أشمل من ذلك جزء من تاريخ الصراع العربي الصهيوني... من المفترض حسب منطق الأشياء أن تكون الثورة هي التي تُفضي الى المفاوضات وبالتالي الى السلام... ذلك أن الفعل الثوري هو عملية تحرير ومواجهة مع العدو... ومقارعة لأهدافه... وفق مسار للتحرر من الاستعمار عبر وسائل عنيفة ومن خلال أدوات وأساليب عسكرية تضاهي ما استعمله العدو المحتل ولكن مع اختلال في الميزان من حيث الامكانيات وسُبل التحرك السياسي... حركات التحرر ضد الاستعمار القديم والجديد ناضلت ومارست ولا تزال العنف الثوري عنفا يقضي على السائد من الأوضاع، فيتصدى ويضرب كل أدوات الاحتلال من قوى خارجية وأخرى داخلية. بالإمكان أن نرصد الآن مثلا بعضا من تداعيات «المفاوضات» المباشرة بين «اسرائيليين» و«فلسطينيين»، فيكشف المشهد أن الطرف القائم بجريمة الاحتلال والمتفوق أسلحة وعتادا وعلاقات بدول عظمى تحمي مصالحه ويحمي مصالحها في الآن نفسه هو من يفرض شروطه المجحفة وأقصد شروط الغالب تجاه المغلوب...وشروط الظالم تجاه المظلوم... المفاوضات حول القضية الفلسطينية بين طرفي النزاع كان يمكن ان تستجيب لشروط المفاوضات لو أن الميدان باح بغير ما أفضت اليه التطورات بعد حرب أكتوبر 1973 والتي تعهد النظام الرسمي العربي على لسان السادات وبعد أن حطّت ذات الحرب أوزارها بأن تكون (حرب أكتوبر 73) آخر الحروب العربية الاسرائيلية! وقد وقع ذلك فعلا... وطبّق العرب ما أعلنه السادات... سوف تترك حرب التحرير النظامية أو المدعومة من النظام العربي المجال الى ما يمكن ان يطلق عليه «الحرب الشعبية» أو حرب العصابات والعنف الثوري الذي تقوده حركات وطنية هي عبارة عن فصائل وطنية مسلحة عرفنا مثيلاتها مع الثورات العربية ضد الاستعمار القديم وفي الفيتنام والشيلي وكذلك مع الثورة الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية لاحقا... كما تركت الحروب العربية الاسرائيلية (النظامية من الجانب العربي) المجال الى ما سيُطلق عليه لاحقا الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال الصهيوني... وفي هذا المجال لنا فصل من الذكريات والمواقف والتاريخ... وسنرى خصوصية انتفاضة العزّل من أبناء البلد الواقع تحت الاحتلال... وكيف يواجهون السلاح الناري بالحجارة. الآثار المباشرة لحرب أكتوبر وتداعيات الخطر النفطي الذي أوعزت به الشركات الاحتكارية العالمية الى الأطراف السياسية العربية انقضت وأفضى الأمر الى هدفين اثنين: الأول وتمثّل في الترفيع الهائل لسعر برميل النفط عبر العالم فأضحى الذهب الأسود ذهبا بأتم معنى الكلمة، وأصبحت بورصة البترول من أخطر بورصات التداول المالي في العالم، وأصبح مجرد اجتماع الدول المصدرة للنفط محطة دولية تهتز لها العواصم وأصبحت للحدث علوية على أي دورة من دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تنعقد كل شهر سبتمبر مرة لمدة أيام وتسمى «الدورة العادية» للجمعية العامة! والثاني وهم أصاب الدول العربية (الخليجية) أساسا والمصدّرة للنفط، بأنها «سيدة» ثرواتها النفطية من جهة، وهي قادرة وفق ذلك، على التحكّم في أسعار النفط، ومن جهة أخرى أنها ساهمت في مواجهة الكيان الصهيوني والامبريالية، وفق مقتضيات الصراع العربي الصهيوني... في حين نجد أن الحقائق بعيدة كل البعد عن هذا الهدف وذاك... منظمة التحرير الفلسطينية، كهيكل جامع لفصائل ثورية هدفها الموحد تحرير فلسطين من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم التي أطردوا منها بقوة السلاح سنة 1948... إبان النكبة، بدأت (م.ت.ف) تنظر بعين الرّيبة الى تبدّل الاهداف والمرامي، التي بدأت تفوح من «مجلس» النظام الرسمي العربي... إذ من هذا الوضع وهذا المدخل، بدأ السادات ينفّذ المخطط، الذي نشك كثيرا أن يكون مخططا شخصيا، من بنات أفكاره ومن قناعاته الشخصية. عند هذا التفصيل، وبمجرد البدء في استعراض الاحداث التي أدّت الى ما قام به السادات من زيارة للقدس المحتلة... وخطاب في «الكنيست» الاسرائيلي، وتطبيع سياسي مع الكيان الصهيوني، سوف يأتي لاحقا، أي بعد رحيل السادات. عند هذه النقطة بالذات، كثيرون هم من يشهرون مسألة على غاية الاهمية، و«لغاية في نفس يعقوب» باعتقادي وليس من باب الحرص على تواصل منطق الثورة ونبذ صيغة التطبيع مع عدو محتل لم يعترف الى اليوم بأي جزء، مهما كان صغيرا، من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني... ولعل آخرها ما يتغنّى به نتانياهو منذ يومين بإعلانه شرط التفاوض ومواصلة التفاوض مع الفلسطينيين مقابل إقرار الطرف الفلسطيني ب«يهودية الدولة الاسرائيلية»، مما يعني القضاء المبرم على أحقية شعب فلسطين على أي جزء من فلسطين!... كنت أقصد منذ حين، بالنقطة المهمة، ونحن نلج مرحلة ما بعد الحرب مع اسرائيل، أي التطبيع أو «اتفاقيات السلام» مشروع «روجرز» وزير الخارجية الامريكي الذي قدمه وطرحه على الأردن ومصر والكيان الصهيوني يوم 25 جوان 1970، من أجل إقامة «مباحثات» قصد التوصّل الى اتفاق سلام عادل ودائم بين الاطراف... مشروع سنرى غدا إن شاء الله، كيف قبلته «مصر عبد الناصر» ولماذا قبلته... ووفق أي أهداف... وذلك حتى نرفع الغشاء قدر الامكان عبر حقائق تاريخية، وليس إرساء واقع جديد عبر انتقاءات للأحداث وتصوّرات هي أقرب الى أمنيات من صوّرها منها الى حقائق الأمور...