هو اقدم نص ينتمي الى ادب المناقب ومؤلفه هو اول مؤلف لأدب المناقب في العهد الحفصي انه نص رائد ومؤسس. هذا ما ذكره الاستاذ توفيق بن عامر في تقديمه لكتاب «مناقب ابي سعيد الباجي» لعلي الهواري تحقيق الدكتور احمد البخاري الشتوي. واضاف صاحب التحقيق في مقدمته ان المرتبة المرموقة التي بلغتها ضاحية سيدي ابي سعيد في الوقت الحاضر تظل في حاجة الى ان تكتمل بالتعرف على ماضي تلك الضاحية، فكيف يشتهر المكان ولا يشتهر صاحبه؟ ومن اين لتلميذه من بعده أبي الحسن الشاذلي ليكوّن مدرسة صوفية وينال شهرة واسعة في البلدان الاسلامية والشيخ يظل مغيّبا، نكرة؟ ولا يسعى هذا الكتاب الى التعريف برجل فقط، بقدر ما يسعى الى التعريف بتوجه صوفي برز منخلاله مدى تأصل عدة خصائص تكاد تكون قارة في تاريخ افريقية وهي الاعتدال والتوفيق بن متطلبات الدين ومتطلبات الدنيا، والجمع بين الشريعة والحقيقة من جهة، والعلم والعمل من جهة ثانية. فماهي الخصائص الكبرى لعهد ابي سعيد الباجي وماهي اهم المناقب والكرامات التي اشتهر بها دون سواه؟ جمع ابو سعيد الباجي بين عهدين هما آخر العهد الصنهاجي ومطلع العهد الحفصي الذي يعد الامتداد الطبيعي للحكم الموحدي لقد تميّزت الفترة التي عاشها الرجل بانعدام السلطة المركزية وتعدد السلط القبلية وهو ما يعرف بعصر الطوائف الذي امتد تقريبا من عام 450ه/ 1085م الى 600ه/ 1203م الى جانب انتشار الفتن الداخلية. فقرابة نصف البلاد او يزيد في فتن مستمرة، وكذلك امتدت هذه الفتن قرابة نصف قرن. كما ان غزوات النصارى على السواحل التونسية تكررت في ازمنة ومدن مختلفة وانتهى الامر الى الاستنجاد بسلطة اسلامية خارجية هي سلطة الموحدين بالمغرب الاقصى. في هذه الظروف المضطربة نشأ شيخنا ابو سعيد الباجي الذي قال عنه الهواري صاحب المناقب: «كان ديّنا، خيّرا، فاضلا، موقرا ورعا، صح ذلك عنه واشتهر به من سيرته وأحواله... كان من أولياء الله». وقال عنه مؤدبه ايضا: «ليكوننّ لهذا الصبي نبأ عظيم». **سيرته وصلاحه ويذكر المؤلف في كتابه ان أبا سعيد خلف بن يحيى التميمي الباجي (551ه/ 1156م 628ه/ 1230م) ولد بباجة، ثم انتقل الى تونس خرج من باجة الى بلاد الحجاز لأداء مناسك الحج عام 603ه/ 1206م وظل مجاورا بمكة ثلاث سنوات ثم ارتحل الى بلاد الشام، ومنها شد الرحال راجعا الى تونس عام 606ه/1209م. وكانت زوجته من الصالحات ايضا فقد رافقته الى بلاد الحجاز. وقد كان ابو سعيد الباجي خيّاطا قبل ان يشتهر بالزهد والصلاح والبركة. وهو من اولياء الله الصالحين، ومن ارباب الاحوال وكان كثيرا ما يردّ عليه حال وجد، وغشية وقد يصيح، ويقفز ويقع مغشيا عليه، وينخرط في البكاء متأثرا بكلام او بمواقف او بمشاهد تحرك مشاعره، وكان كثيرا ما يعلوه البكاء اثناء قراءة القرآن في الصلاة وذكر المحقق ان الشيخ كانت تأتيه الاموال، والأطعمة بكميات كبيرة، وكان يوزعها على المحتاجين. وكان يلازم مسجده بدرب ابي زبيدة بتربة الباي حاليا وكان يتجنب الاتصال برجال الحكم من الموحدين رغم مساندة بعضهم للتصوف. وكان يرفض التدخل للفت انتباه الحكام لبعض الحالات الفردية او الجماعية، وانما كان يعبّر عن احتجاجه بأن يدعو الله في صلاته، ويبدي غضبه فيشيع الناس عن ذلك فيعالج الحاكم الامر بسرعة، وكان الناس يزدحمون عليه للتبرك به كلما صلى الجمعة بالجامع الأعظم جامع الزيتونية المعمور، وتوفي الشيخ وعمره (77 عاما) ودفن بمنارة قرطاجنة. **كرامته ومما رواه علي الهواري في المناقب ان الشيخ كان يمشي على الماء فقد قال الشيخ: كنت وقتا بساحل بونة عند رأس الحمراء ومعي الشيخ ابو مروان ورجل آخر اظنه ابو مدين فورد عليّ حال غيّبني عن حسّي ثم افقت. فقال لي الرجلان: ما هذا يا أبا سعيد؟ فقلت: ما الخبر؟ قالا: لقد رأيناك تمشي على الماء، الى ان وصلت هناك الى موضع طائر في البحر بعيد. وما كنت احسب الذي يمشي على الماء يكون غائبا عن حسه؟ فقلت لهما: صح ذلك عندكما. فقالا: نعم. فتواريت عنهما واغتسلت حينئذ وذكر صاحب المناقب ان الشيخ كان اكثر اوقاته تدخل عليه الملائكة ويسلم عليهم ويشير اليهم بالجلوس وهو يقول: هنا يا ملائكة الله يا وفد الله ورأي مقعده في الجنة ورديا. وكان ذات مرة بصحبة فقراء فبكى وحرّك شفتيه فاذا بفارس يركض بفرسه ويسأل عن الشيخ ليعطيه اموالا قام بتوزيعها على المحتاجين، وكان يرزقه الرجل من حيث لا يدري وتأتيه الاموال في كل حين ليوزعها على الفقراء والمعوزين وكان يداوي المرضى ببركة الله. وروى عنه احدهم قائلا: مرضت زوجتي فاشتهت التفاح والرمان في غير اوانهما فقصدت الشيخ الباجي فقام وصلى اربع ركعات ثم دعا بدعاء خفي فرأيت ثلاث عشرة رمانة تسقط في حجره واثنتي عشرة تفاحة فأعطاني اياها. وروى الثقات انه كان يعلم بالأحداث قبل وقوعها وتنبأ بحدوثها وبتفاصيلها احيانا مما يدل على كراماته وقربه من الله.