في هذه الأيّام وفي مثلها من كل سنة ومنذ قرن من الزمن تتحوّل أنظار شعوب العالم نحو ستوكهولم عاصمة السويد ليروا أعمالهم وما قدمت صفوة نخبهم «لنفع الانسانية بشتّى الابداعات والاكتشافات والتطويرات في مختلف ميادين المعرفة أو بالأثر الأدبي الملفت او بالعمل الجاد من أجل السلم...» كما جاء ذلك في وصيّة الفريد نوبل العالم الكيميائي مخترع المتفجرات ومؤسس الجائزة التي تحمل اسمه والتي تسند سنويا منذ 1901 للمتألّقين البارزين في ميادين الفيزياء والكيمياء والطبّ والأدب والسّلم. وباستثناء نوبل للسلم المثيرة للجدل والتي كثيرا ما تتداخل في منحها اعتبارات سياسية بأخرى سياسوية، فإن جوائز نوبل الأربع المذكورة سابقا تعتبر محرارا لتقدير حيويّة الشعوب ومستوى ما بلغته من نموّ ورقيّ ووعي بقيمة الإبداع ولزوم الحريّة. إن جائزة نوبل مؤشّر هام وإن لم يكن الوحيد بل وخطير به يُفرق بين التقدّم والتخلّف وبين الحداثة والتأخّر. ولعلّه لهذا السبب كانت النُخب العربية تنظر الى هذه المكافأة العالمية بكثير من التحفّظ والارتياب محاولة التغطيّة على عجزها بالتقليل من قيمتها واعتبارها تجسيما سافرا للهيمنة الغربية وامتدادا للفكر الاستعماري المتحيّز المحتقر الذي عانت منه كل أو جلّ الشعوب العربية وذاقت ويلاته على امتداد ثلاثة أجيال كاملة فولّد ذلك في عقلها الباطن إحساسا بالغبن فاندفاعا الى النقمة فحيادا عن الطريق الصحيحة المؤدية الى التطوّر والتقدّم وعوض البحث عن الاخذ بناصية العلوم وأسباب المعرفة والتألّق وتحقيق الذات سلكت النخب العربية إلا قليل منها منهج البحث عن الجنّة المفقودة في الكتب الصفراء وخرافات المسامرات الليلية فكان التيه وكان التطرّف... ماذا نجيب أبناءنا إن سألونا هذه الأيام عن سبب عدم حصول عربي واحد على جائزة نوبل في الطب ونحن لم نفتأ نهدهدهم بحكايات وردية عن أمجاد الطب العربي الذي ورث معارف بابل وفارس والهند والذي أنجب آباء الطب الحديث من أمثال الكندي الذي طوّع علوم الحساب لصناعة الأدوية، وأبي القاسم الأندلسي صاحب كتاب «التصريف» والذي دُرّس في أهم مدارس الطب الاسلامية والأوروبية فكان أول من أدخل التقنيات الجراحية، وابن سينا صاحب كتاب «الشفاء» الذي أبقي على التدريس به في كليات الطب الفرنسية الى بداية القرن التاسع عشر، وابن الهيثم الذي طوّر طب العيون، وابن النفيس أول من وصف الدورة الرئوية.. وغيرهم كثير... أنقول لأبنائنا إننا عجزنا قرنا كاملا أن يكون لنا إسهام يذكر في مصارعة الأمراض أو تخفيف الألم؟ في عددها لشهر نوفمبر 2007 خصّت المجلة الأمريكية «تايم ماغازين» «Time Magazine» الثقافة الفرنسية بتحقيق اختارت له عنوانا قاتلا ونشرته بصفحتها الأولى ففجّرت بذلك قنبلة عمّ دويّها كافة أوساط الثقافة والفكر في هذا البلد فانتظمت منابر التفكير والحوار وتجنّد أعلام الإبداع من كل الاختصاصات وكان أول الدافعين الى هذا الحراك رجال السياسة الذين بادروا بالدعوة الى إعادة النظر في دور المؤسسة التربوية باعتبارها الحجر الأساس في كل مشروع ثقافي حضاري. في تلك السنة وقع الاعلان عن الحائز عن نوبل للآداب فكان الفرنسي لوكلازيو «Le Clezio» الذي أنصف بلاده بهذا الفوز وأكد أسبقية فرنسا في مجال الآداب وتقدمها على كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وانقلتر اللتين نال أدباؤهما هذه الجائزة عشر مرات، في حين فاز بها الأدباء الفرنسيون أربعة عشرة مرة. وكان من بين هؤلاء سنة 1964 الأديب والفيلسوف جون بول سارتر «Jean Paul Sartre» مؤسس الوجودية الذي رفضها كما رفض قبلها كل الجوائز والشهادات موضحا أن مثل هذه التشريفات خطر على حريته وإنقاص منها وأن لا شيء أعْلى ولا أغلى من حرية المفكر والكاتب. ٭ ٭ ٭ لعلّ عبد اللّه بن المقفع كان أول من ينال جائزة نوبل من أدباء اللغة العربية لو كان بيننا اليوم فهو المفكّر الملتزم الذي ناضل من أجل ميلاد حضارة عربية اللسان متسامحة بإسلامها النيّر تتضافر في إعلاء شأنها ودعم أركانها مختلف مكوناتها كل انطلاقا من خصوصياتها. يطرح ابن المقفع في مؤلفاته التي صاغها في عربية حسية ومباشرة ومتماسكة نظرية ألهمت أدباء النهضة في أوروبا خلاصتها ان للمفكر حرية مخاطبة السياسي ونقده ونصحه معتمدا في ذلك على العقل الذي هو ملكة فطرية في الإنسان وعلى الأدب الذي يحتاجه هذا العقل لينكشف ويتجلى. وينهي ابن المقفع «أدبه الكبير» بالدعوة إلى بناء الدولة لا على أساس الدين بل اعتمادا على القانون الذي يلهمه العدل والنجاعة. قتل ابن المقفع بعد أن رُمي بالزندقة وهي تهمة كاذبة بغيضة لم تقدر على حجب الأسباب الحقيقية وهي سياسية بحتة لا محالة. ٭ ٭ ٭ حين حصل الأديب نجيب محفوظ على نوبل للأداب لسنة 1988 تغيرت نظرية النخب العربية تجاه هذه الجائزة وراحوا يمجدون صاحبها باحثين في بلدانهم عن أسماء ل«نوابل» ممكنة لكن نوبل نجيب محفوظ بقيت يتيمة وقد تبقى كذلك زمنا لأن أدبنا صغير و«ستوكهولم» بعيدة وليس لنا رغم «قازنا» و«غازنا» ومنظماتنا العربية جوائز بديلة. الكاتب والصحفي الفرنسي فيليب كاردينال Philippe Cardinal كان مبعوث اليومية «ليبيراسيون» Libération الى مصر حين أعلن عن فوز نجيب محفوظ ب«نوبل» فكتب ربيورتاجا منه هذه المقتطفات: «على جدران القاهرة علقت ملصقات عملاقة أنجزتها وزارة الثقافة تبرز نجيب محفوظ جالسا في المقهى. وأصدرت وزارة المواصلات طابعا بريديا تكريما للأديب المتميز وتنافست المدن والقرى لإطلاق اسم نجيب محفوظ على شوارعها. وانفرد أحد أعيان دلتا النيل بدعوته لألف شخص لتناول فطور أكد صاحب الدعوة أن فيه لحما. الواضح أننا لازلنا نخلط بين غذاء الفكر وغذاء البطن. تايم ماغازين. موت الثقافة الفرنسية: Time Magazine. The death of French culture نوفمبر 2007