لا تطمئنّ الموسوعات العالميّة إلى تصنيف للحروب حتى تضطرّها الأحداث إلى تصنيف جديد! وبعد الحروب الكلاسيكيّة والحروب الثوريّة وحروب التحرّر الوطنيّ والحروب الأهليّة والحرب الباردة والحروب التي تُشنّ بدعوى نشر الديمقراطيّة أو الحرب على الإرهاب، توقّع المؤرّخون أن يتمّ إغلاق القائمة! ثمّ اتّضح أنّ بعض الظنّ حرب!! والأرجح أنّ قائمة الحروب لن تُغلق أبدًا! فها هي حروب الحدود وها هي حروب المفاوضات وها هي حروب الاستفتاءات...بل إنّ البعض يتحدّث عن حروب مستقبليّة نرى بوادرها في الحاضر: مثل حروب المياه وحروب البيئة وحروب الثقافات وحروب الفضائيّات وحروب الفوتبول!! كتب كليمنسو ذات يوم: «إنّ الحرب أخطر من أن نعهد بها إلى العسكريّين»! ويبدو أنّ كبار العالم اقتنعوا بكلامه، لذلك ها هم يعهدون بشؤون الحرب إلى نوعين جديدين من المحاربين: قراصنة الأنترنات وحيتان المال!! ذلك ما يخطر على البال أمام القصف الفايروسيّ الذي ذهبت ضحيّته آلاف الحواسيب الإيرانيّة في ما يُرجّحُ أنّه بفعل دولة أو أكثر وليس بفعل قراصنة معزولين! وذلك ما يخطر على البال أمام الحرب الطاحنة التي تدور بين أمريكا والصين وأوروبا، أو بين الدولار واليوان والأورو! أمّا بالنسبة إلى حرب الحواسيب، فقد يتصوّر البعض أنّها حرب وهميّة لا أثر لها في الواقع...وهو تصوّر سرعان ما تتّضح سذاجته، بالنظر إلى ما تعترف به دول عديدة في هذا المجال...فالولايات المتّحدة الأمريكيّة ترصد مليارات الدولارات لدعم أجهزة عسكريّة تشغّل آلاف الخبراء المتخصّصين في القرصنة والتصدّي للقرصنة المعلوماتيّة...ومن بين الوثائق التي تؤكّد اهتمام الأمريكيّين بهذه «الجبهة» الكتاب الذي أصدره ريتشارد كلارك المستشار الأسبق للبيت الأبيض في ما يسمّى الحرب على الإرهاب، بعنوان «الحرب الإلكترونيّة، التهديد الأمني القوميّ المُقبل»...أمّا إسرائيل فهي من أكثر الدول نشاطًا في هذا المجال...ويرجّح الخبراء أنّ فايروس «ستاكسنت» الأخير الذي استهدف إيران بشكل خاصّ، هو صناعة إسرائيليّة، وأنّ إسرائيل وضعت في شفرة الفايروس «رسالة ضمنيّة» للإيحاء بمصدرها...تتمثّل في إشارة إلى «أستير»، وهي الملكة التي يذكر التوراة أنّها استدرجت زوجها إلى شنّ أولّ «حرب استباقيّة» في التاريخ دفاعًا عن اليهود! وأمّا حرب البورصات والبنوك وتسعير العملة، فهي لم تعد اليوم في حاجة إلى دليل، بالنظر إلى تأثيرها في الحياة اليوميّة لكلّ سكّان المعمورة، وبالنظر إلى ما تثيره من شدّ وجذب يصعب معه طبعًا على الاقتصاد الأوروبي والعالميّ أن يتعافى من أزمته الأخيرة! ممّا جعل وزير الماليّة البرازيلي يصرّح يوم 26 سبتمبر الماضي بأنّ «العالم كلّه يعيش اليوم في قلب حرب عُمْلات دوليّة طاحنة»! فقد تتالت تداعيات الأزمة الاقتصاديّة العالميّة خاصّة بعد انهيار الاقتصاد اليونانيّ، واضطرّ الجميع إلى البحث عن ملاذ، أي للتعامل بواسطة عملة صلبة وقارّة! الفرنك السويسريّ، ثمّ اليان اليابانيّ، ثمّ الأورو، إلخ...إلاّ أنّ ما اتّخذ في البداية مظهر الثقة أصبح مصدرًا للمشاكل، إذ ارتفعت قيمة هذه العُمْلات ممّا جعل صادرات بلدانها تنخفض! ولمّا بات التصدير هو المورد الوحيد المتاح لضخّ دماء جديدة في شرايين النموّ أمام تراجع معدّلات الاستهلاك وخمول الاستثمار وتفاقم البطالة...فإنّ من مصلحة البلاد المصدّرة أن تكون عملتها ضعيفة، لأنّ ضعف العملة يؤمّن للصادرات ظروفًا تنافسيّة أفضل. لذلك تريد الولايات المتّحدة من الصين أن تعيد تقييم عملتها إلى أعلى، بينما تقول الصين إنّها لا ترى سببًا وجيهًا يجعلها تتحمّل لوحدها مسؤوليّة علاج الاقتصاد الأمريكيّ المريض! والطريف، كما جاء في ملفّ من ملفّات لونوفيل أوبسيرفاتور أنّ هذه الحرب هي الحرب الوحيدة التي يكون الطرف الأقوى فيها هو الطرف الأضعف!! فمن مصلحة الصين أن تظلّ عملتها ضعيفة، شأنها في ذلك شأن الولايات المتّحدة وأوروبّا! والسؤال الآن: أين الحواسيب العربيّة من هذه الحرب الإلكترونيّة؟ وأين العملات العربيّة من حرب العملات الطاحنة؟ وهل سترصد الأنظمة العربيّة لهذه الأمور جزءًا من ملياراتها المهدورة على تكديس الأسلحة، أم تتمسّك بتصديق شعارها القديم التليد: أنّ ضعفنا هو عامل قوّتها الوحيد؟!!