في الطفولة الأولى كانت أحوال عائلة الرحباني مرتاحة، كان «مقهى الفوا» في عز شهرته والزبائن كثيرين، ورغم أن أبا عاصي كان ذواقة فن فقد كان ينهى أولاده عن تعلم الموسيقى، ويغضب اذا اقترب أحدهم من البزق أوحاول العزف عليه، ولم يكن يهتم بدراسة أبنائه بقدر ما كان يخشى على صحتهم، لذلك كان يقلع عن ارسالهم الى المدرسة في منتصف الربيع ويبقيهم حوله في الفوار. وذات يوم قرر أبو عاصي بيع مقهى الفوار واشترى مقهى صيفيا في منطقة الينابيع وسماه «مقهى المنيبيع»، كان عاصي في الحادية عشرة ومنصور في التاسعة من العمر، كانا قد كبرا كفاية ليساعدا والدهما على خدمة الزبائن، تعلما الصيد ورافقا الصيادين، ومن ناس تلك الفترة ولدت شخصيات سبع ومخول وبو فارس والست زمرد وسائر شخصيات اسكتشات الرحباني الضيعوية. ورغم أن أبا عاصي كان أمياً لكنه كان يحب الشعر وخاصة شعر عنترة وكان يروي قصائد كاملة لعنترة، حتى أنه باع يوماً طنجرة من المقهى ليشتري بها ديوان عنترة بتحقيق ابراهيم اليازجي. وربما كان لذلك تأثير على عاصي ومنصور، فبدآ بقراءة الشعر القديم وحفظه مما ساعدهما في ما بعد على انتهاج أوزان خاصة تتناسب وموسيقاهما، ومما زاد في اتجاهما الى الفن الشعبي وأزجاله، أن الجدة غيتا كانت تحرضهما على قول الزجل وحفظه، وفي أماسي المنيبيع المقمرة كانت العائلة تجلس حول الأب لتغني الموشحات القديمة «لما بدا يتثنى» و«يامن يحن اليه فؤادي» و«يالور حبك» و«زوروني كل سنة مرة» التي أعاد الأخوان توزيعها في ما بعد، وحين غنت فيروز أغنية زوروني كل سنة مرة بالتوزيع الجديد، فوجئ أولاد سيد درويش وخاصة ابنه محمد البحر أن هذه الأغنية للسيد درويش ولم يعرف ذلك الا من الرحابنة، فمن المفارقة أن أغاني سيد درويش كانت شائعة أكثر في لبنان وسوريا أكثر من مصر. ورغم شدة أبي عاصي في ابعاد الموسيقى وعزف البزق عن أولاده، وقعت حادثة طريفة يسميها عاصي حادثة الكمان، فذات يوم من صيف 38، وجد عاصي ورقة من فئة عشرة ليرات على أرض المقهى، أخذها إلى والده فزجره وقال «هذه لها أصحاب، علقها على الحبل حتى يعود صاحبها فيستردها، وبقيت الورقة ترتعش في الهواء أياماً ولم يأت أحد لأخذها، عندها أخذها عاصي، نسخها على ورقة وعلق النسخة على الحبل من جديد، وأخذ الأصلية ونزل الى بيروت فاشترى كماناً عتيقاً بسبع ليرات ونصف كي يتعلم العزف عليه، وبالبقية ذهب هو ومنصور لمشاهدة فيلم. وفي تلك المرحلة بدأت مواهب عاصي الكتابية تتفتح، وكانت البداية في مجلة «الرياض» المدرسية، كتب الشعر والمقالات الأدبية والنقد ومشاهد مسرحية وخواطر وجدانية ومسلسلات بالفصحى والعامية، لكن الوالد بقي خارج هذا «النجاح» الصحافي لأنه لم يكن يؤمن بأن هذه الأعمال تطعم خبزاً في المستقبل، اضافة الى أن كل شعر غير شعر عنترة لم يكن يستهويه، كان ما زال ينهى عن البزق، لكنه يعجب برندحات يسمعها له أولاده، وشاء القدر أن لا تبقى محاولات الأخوين متخفية، ففي خريف 38 وصل الى أنطلياس الأب بولس الأشقر الأنطوني وهو مؤلف موسيقي متظلّع ومعروف بأنه حيثما يحل يؤلف فرقة يدربها على الموسيقى والتراتيل، جمع نفراً من شباب الضيعة وكان من بينهم منصور رغم أن صوته كان عادياً، لم يأخذ عاصي لأن صوته بدأ «يرجل» وفي نبرة متوسطة بين الخشونة والنعومة، كان عاصي يذهب مع منصور ويقف قرب الهارمنيوم يراقب وفي قلبه حسرة لأنه لم يتمكن من التعلم. وصادف يوماً أن كان الأب بولس يشرح نظرية «التيتراكود» وكان عاصي يصغي بانتباه وحين فرغ الأب بولس من الشرح سأل التلاميذ ليمتحن مدى استيعابهم، فلم ترتفع أي يد، لكن صوت عاصي أتى من الخلف قائلاً «أنا أعرف يا بونا» فوجئ الأب أن يكون هذا الفتى الواقف بعيداً قد التقط النظرية بذكاء، فدعاه قائلاً «اذا استعدت شرح النظرية سأعلمك الموسيقى» شرحها عاصي فأعجب الأب بولس ومن يومها بدأ يعلم عاصي ومنصور خاصة بعد أن اكتشف فيهما تميزاً عن سائر الرفاق في الجوقة، فانفرد يلقنهما أصول الموسيقى على الأرغن والبيانو. وصار وقت الأخوين كله مبهوراً بالموسيقى في الكنيسة، ولكثرة ما كانا يعزفان على الأرغن والبيانو، ذهب من يشي الى الوالد أن الأولاد حولا الكنيسة الى تياترو، وكان الأب متديناً فهرع الى الكنيسة وانتشل أولاده من ذلك العالم السحري وأعادهما الى الدكان، لكنهما عادا خلسة الى الأب بولس الذي ذهب الى أبي عاصي وطيب خاطره بأن مايقوم به لا يسيء الى الدين فهنأ أبا عاصي على كلام الأب وبدأ التحول في حياة الأخوين الموسيقية، تعلما المقامات الشرقية والأنغام العربية وكتابة النوطة، واطلعا على مراجع موسيقية نادرة في مكتبة الأب بولس مثل الرسالة الشهابية في قواعد ألحان الموسيقى العربية. وكتب الفارابي والكندي. وبقيا يدرسان مع الأب بولس طوال ست سنوات، ووفاء له كانت أول قطعة من تأليفهما معاً هدية في عيد ميلاده، وفي تلك الفترة كان عاصي يلحن وحده قطعاً أو مزامير، ومنصور يلحن لوحده، بدآ في ما بعد التلحين بتوقيع «الأخوين رحباني». ٭ من كتاب بدأت بكتابته رفقة منصور رحباني الله يرحمه وان شاء الله سيتم نشره قريباً