«ضربوني» كانت آخر كلمة خاطب بها والده. هو الآن في عالم الأموات أما والده فيموت في اليوم ألف مرة بسبب تلك الكلمة التي يتردد صداها في ذاكرته. «ما أقسى أن يموت ابنك بين يديك دون سابق إنذار... ما أفظع أن يقول لك إنهم ضربوه (أصابوه بطلقة نارية) دون أن تقوى على التصرف». هكذا تحدث والده، لكن المشكلة أن الضحية لم يكن بالنسبة إليه مجرد ابن «كان ابني وصديقي وسندي وكل شيء في حياتي» هكذا وصفه قبل أن يمر إلى التفاصيل : كان شابا يتقد حيوية ونشاطا أحب فيه جميع معارفه في حي الغزالة بأريانة رفعة أخلاقه وترفعه عن المشاكل وتضحيته بنفسه في سبيل الآخرين. عاش محمد الزنتوني 28 سنة (هي كل عمره) بارا بوالديه محبا لشقيقته الوحيدة التي تصغره بسنة واحدة. فقد والدته قبل 3 سنوات فتأثر كثيرا بوفاتها مثله في ذلك مثل والده وشقيقته لكن ما خفف عنهم أن علاقتهم فيما بينهم كانت مثالية. «كنا ثلاثة أصدقاء» هكذا يصف والده تلك العلاقة «.. كان كل واحد منا يحادث الآخرين في مشاكله ومشاغله وأحلامه وتطلعاته». ويضيف وهو يمسح دموعه المنسابة على خديه «كان فقدان الأم واضحا في حياتنا... لكننا كنا نلملم أحزاننا حتى تتواصل حياتنا طبيعية واليوم...» تخنقه كلماته فيصمت حينا ثم يغالب أحزانه ليكمل «اليوم فقدت الزوجة الصديقة والابن الصديق... لم يبق لي غير بنتي مريم... ولم يبق لها غيري...». لجنة حي «كنا نشاهد البرامج التلفزية في المنزل (بحي الغزالة في أريانة) كأغلب التونسيين» يعود الأب بذاكرته إلى عشية الجمعة 14 جانفي الجاري، ويواصل أن ابنه محمد قرر حوالي الرابعة بعد العصر الالتحاق بأصدقائه في الحي. فلم يشأ الاعتراض ولكنه التمس منه كعادته أن يلازم الحذر...». كانت الساعة في حدود الخامسة لما اتصل بابنه هاتفيّا فأخبره بأنه قريب من المنزل وأنه مجتمع بأصدقائه وجيرانه الذين شكلوا لجنة حي لحماية المتساكنين والحيلولة دون الاضرار بالمكاسب العمومية. اطمأن الأب على ابنه وكرر دعوته إلى ملازمة الحذر. الساعة الآن تجاوزت الربع الأخير من الخامسة يعيد الأب الاتصال بابنه هاتفيا لكنه لا يرد على المكالمة. تحاصره الحيرة فيقرر الاتصال بصهره (خال محمد) الذي أخبره بعد وقت قصير بأن ابنه أصيب بطلقة نارية وأنه موجود في تلك اللحظة داخل مستشفى محمود الماطري بأريانة. «بابا ضربوني» لا يعلم الأب كيف وصل إلى المستشفى ولا يذكر من قابل ولا ما شاهد كل ما يذكره أنه وجد ابنه مستلقيا بعد أن تلقى بعض الاسعافات الأولية البسيطة مثل تمكينه من الأكسجين، لم تكن الإمكانيات والظروف في المستشفى تسمح بالتدخل جراحيا لايقاف النزيف الداخلي. أسرع الأب لاحتضان ابنه الذي كان يشد بقوة على يد شقيقته. «حاولت أن أحصل منه على أي معلومة لكنه اكتفى بعبارة واحدة : «بابا ضربوني» تسيل الدموع من عينيه وهو يضيف : «ما أفظع أن يموت ابنك وصديقك وحبيبك وقرة عينك بين يديك دون أن تقدر على افتدائه بروحك...» كان علينا أن نوقف حديثنا معه حتى تعود إليه قدرته على الكلام. مرّ زمن طويل نسبيا وهو صامت... لا حركة غير انسياب الدموع. بعدها تسلح برباطة جأش بدت لنا غريبة على من يمر بمحنته وعاد ليروي ما سمعه لاحقا من شهود العيان حول ما حدث لحظة الواقعة. «دون ذنب» كان محمد واقفا بين أصدقائه في مكان عمومي على بعد 500 متر تقريبا من منزله... لم يكن ضمن مجموعة متظاهرين ولا مخربين كان ضمن مجموعة تهدف إلى حماية الحي من التخريب والاعتداءات لكن عنصرا من الشرطة أصابه بطلقة نارية في مكان قاتل دون أي ذنب. ويروي الأب عن بعض الشهود أن الإصابة جدت حوالي الخامسة و15 دقيقة من مساء الجمعة وأن محمد صاح إذاك معلنا عن إصابته دون أن يسقط أرضا بل إنه ترجل مسافة قصيرة ثم أسرع أصدقاؤه بنقله إلى المستشفى حيث أسلم روحه حوالي السادسة مساء. «أنا شديد الايمان بالقضاء والقدر ولكن عليكم أن تعلموا بأن تلك الرصاصة لم تصب ابني لوحده بل أصابتني وأصابت شقيقته في آن واحد...» الكلام للأب الذي يشدد على تحديد المسؤول عن هذه الجريمة ومعاقبته قد يخففان من محنة أسرته».