«إذا أردت ان تفعل شيئا ما، تحقق من انك مستعدّ للقيام به الى ما لا نهاية ليكون لك بمثابة نقطة الارتكاز الصلبة. وذلك هو العوْد الأبدي..» *هكذا تكلّم زرادشت / نيتشه لماذا نحن بالذات؟ لأي سبب قاهر يضع العالم العرب في قلب دائرة الموت والغصب والاذلال؟ كيف اتسعت «نقطة الزيت» لتجتاح الخريطة العربية بالاعتداء في وضح النهار على العراق وفلسطين والسودان وبالتسلل في جنح ليالي المؤامرات والضغوط لتشويه ما بقي من وجه الوطن بإعمال سكاكين الاصلاح والانفتاح... على الهاوية؟! ليس من العبث او الصدفة ان يكون الفيلسوف الشاعر نيتشه عاشقا الى حدّ الهوس الذي اصابه فعلا في نهاية حياته بالمتوسط Le Midi بما يطلق عليه اليوم بعد عملية كسْر لعنق الجغرافيا «الجنوب». لقد تعلق مفكّر الانحطاط الغربي بشرق النار الأبدية وبحكمته بحرارة الدماء والشمس وبصفاء السماء، بالتدفق الغريزي لينابيع الحياة الصافية. لقد صقل نيتشه من وهج فكره الجريء نصْل مفهوم العود الأبديّ ليكسر خرافة سهم الزمن اليهودي المسيحي الذي قال به دُعاة التفوق الغربي من القديس اوغسطين الى هيغل كمقدمة لتبرير اخضاع توحّش الطبيعة والشعوب لمركزية «العقل الابيض» ولكن... ولكن هل تحققت هذه الغاية والمنتهى او لعلها تحققت «نهاية التاريخ» التي اراد فوكوياما ان يرسم بها صورة ثابتة للعالم بحيث تكون فيها امريكا والغرب في مركز الحضارة الاخيرة وتكون الشعوب الأخرى على الاطراف الألية للبداوة. وللمزيد من اتقان لعبة التبشير بالمدينة الفاضلة الامريكية لم يبخل علينا فوكوياما بالرجوع الى نيتشه بأن خصص له قسما كاملا من كتابه «نهاية التاريخ والانسان الأخير» / القسم الخامس ص 279 والذي كتب في الجزء الثاني منه وتحت عنوان: اناس بدون جرأة ما يلي: «ان الدولة الديمقراطية الليبرالية لا تمثل نظاما لأخلاق الاسياد والعبيد كما طرح ذلك هيغل. بل هي كما يرى نيتشه تمثل انتصارا غير مشروط للعبيد...» وهو يريد من وراء ذلك ان ينزع عن الدولة الحديثة صبغتها الديمقراطية لأنها لا تعدو ان تكون سوى علامة على انتصار الضعفاء في الوقت الذي كان يجب فيه على هذه الدولة ان تكون ليبرالية متوحشة وان تحتفظ بدمائها الارستقراطية لكي تسمح لأشخاص مثاليين مثل جورج بوش (ص302) بتحقيق الأهداف الأخلاقية العظمى!!! بمثل هذا النوع من التحليل يواصل فوكوياما سلسلة القراءات المبتذلة لفكر نيتشه عندما اختزله في التنظير للقوة والبطش والحال ان تناول احدى المفاهيم المحورية لهذا الفكر لاسيما «العود الابدي» يفيد العكس تماما. فالعوْد الأبدي في احدى تأويلاته يشير الى تجدّد واستئناف «ملحمة الوجود» عبر هدم كل ما هو رجعي ومتآكل، وانتقاء ما هو فعّال وموجب. ومن بين مزايا هذه الرؤية في قضية الحال هي انها لا ترشح الانسان الغربي المتعب بتورّمه المادي لتحمل اعباء الاستئناف بقدر ما تترك المجال مفتوحا لغيره، لأمثال زرادشت «الحكيم الشرقي». وما دام العرب غير معنيين بنهاية التاريخ كما يصوّرها لسان الانحطاط الغربي المحافظ فإنه بالامكان الحكم على ما يجري اليوم في شكل احداث كارثية على انه مؤشر لبداية عصر جديد، على العرب ان يكون لهم فيه شأن خاصة وانهم يتموقعون في محور صراعاته. وليس هذا بالغريب عنهم وذلك بالنظر الى ما يقوله التاريخ عن حضورهم في ابرز المنعطفات والدورات الكبرى. فقد وُجد العمّوريون والأراميون في اتون الصراع البابلي الفرعوني ونقلوا الكتابة الصوتية الى كنعان والى الانسانية جمعاء. ووجد الفنيقيون في الصراع القرطاجي الروماني فعلّموا الاوروبيين فنون الإبحار والفلاحة وأثناء الحروب الصليبية أعطى العرب للغزاة درسا في القوة التي تخدم التسامح كما وجدوا في مؤتمرات باريس وبغداد ومدريد، وذلك علامة على انه لا يمكن تسيير العالم بدونهم.. واذ يستهدف العرب اليوم فلأنهم اظهروا تلك القوة الأسطورية على «العود الأبدي». ولأنهم بيّنوا ويبينون قدرتهم على ان يذهبوا الى الهاوية دون ان يعتريهم الدوار. من اجل اثبات وجودهم وبعد ان ينجحوا في التخلص من انصاف الحلول: نصف الجيش والنصف الآخر قواعد اجنبية ونصف النمو والنصف الآخر تبتلعه الديون ونصف السيادة او اقل والنصف الآخر تتعهد به المقاومة وما تبتكره من طرائق الصمود: كحرب المدن ومعركة الأمعاء الخاوية... والقلوب الملأى عزّة وكرامة.