ليس من شكّ في أنّ الثورة التونسيّة تنتصر وتتقدّم بنجاح حتى الآن على الرغم من مخاوف الخائفين وتخويف المخوّفين. ولعلّ قرب عهدنا بالتعدّد والاختلاف في الرأي جهارًا والخروج إلى الشارع للتعبير، هو الذي جعل البعض يتحدّث عن أزمة في شأن حصيلة الأسابيع الماضية التي انتهت باستقالة الحكومة وما واكبها على الصعيدين الإعلاميّ والأمنيّ. إنّها ثورة تحفر مجراها مثل نهر هادر في طريقٍ من الطبيعيّ أن تكون مزروعة بالكثير من المحاذير. والأزمات في هذا السياق عنصر ضروريّ من عناصر حركة التاريخ، ما لم تغلب عليها الجوانب السلبيّة المنتجة للثورات المضادّة. ولن يتحوّل هذا التجاذب إلى أزمة بالمعنى السلبيّ للكلمة، إلاّ إذا استغرق وقتًا أطول ممّا يُحتَمَل، أو خرج على قيم الحريّة والكرامة والإنصاف وغيرها من القيم الأساسيّة التي قامت هذه الثورة من أجل تجسيدها في نظام ديمقراطيّ حقيقيّ. هذا التفاؤل لا يلغي ضرورة التوقّف قليلاً عند بعض الأسئلة التي تثيرها مواقف جميع الأطراف. ولنبدأ برحيل الوزير الأوّل المؤقّت في هذا التوقيت تحديدًا، تاركًا لنا سؤالاً مُعلّقًا على رأس وابل الأسئلة المُعلّقة: لماذا بقي أصلاً طيلة هذا الوقت؟ ولماذا، مرّةً أخرى، يظلّ الدم حبرًا لكتابة رحيل السياسيّين، ومرّةً أخرى، يظلّ النصّ الدمويّ منسوبًا إلى مؤلّف جماعيّ مبهم الهويّة يحمل عنوان أيدٍ خفيّة. كان واضحًا منذ 14 جانفي أنّ على الثورة أن تقطع مع ما سبقها من أدوات وآليّات، وأنّ المجلس التأسيسيّ خيار العقل والأغلبيّة. وأنّ شعب هذه الثورة في حاجة إلى إجراءات ملموسة لا تقبل الإرجاء، وإلى رسائل رمزيّة عاجلة وواضحة. تؤكّد سقوط النظام السابق وانتصار الثورة. فلماذا ظلّ الخطاب الغالب طيلة الأسابيع الماضية: لا أعلم! لا أحد يعرف حقيقة ما حدث! لا أحد أعطى التعليمات!! من الذي يعرف إذنْ؟ ومن الذي يُعطي التعليمات؟ أم أنّ علينا التسليم بأنّ ما يجري ليس سوى عمل من تحت أيديهم؟ أحدُ أهمّ مبرّرات التحاق بعض المناضلين بتلك الحكومة وفقًا لما تمّ إعلانُه: تجنيبُ البلاد الفراغ أثناء الفترة الانتقاليّة. حسنًا. لا أحد يحبّ للبلاد أن تمرّ بفراغ غير مأمون العواقب. ولكن كيف يمكن لشعبنا أن يطمئنّ إلى هذا التبرير بينما الفراغ لم يُملأ حتى الآن إلاّ بفراغ؟ ثمّ وهو الأخطر: ما محلّ الوزراء من الإعراب الحكوميّ إذا ظلّوا آخر من يعلم وآخر من يحكم وإن لتصريف الأعمال، وإن بشكل مؤقّت؟! كلّ هذا لا يبرّر طبعًا تبادل الاتّهامات وغيرها من الممارسات التي تذكّر بثقافة الاستبداد. فالاختلاف بين من يهمّهم نجاح هذه الثورة مطلوب للخروج من دائرة الانفراد بامتلاك السلطة والثروة والحقيقة. وقد التحق بالحكومة المؤقّتة السابقة عدد من المناضلين الذين يشهد لهم تاريخهم شأنهم في ذلك شأن الكثيرين الذين وقفوا في الجبهة المعارضة للحكومة. ومن الضروريّ أن يكون الاختلاف بينهم بعيدًا عن كلّ الشوائب. كلّ هذا التأكيد على تقدّم الثورة من نجاح إلى آخر وبمساهمة الجميع، لا يمنع من الانتباه إلى أنّنا في سباق ضدّ الساعة، وضدّ الأعداء أيضًا. وهو سباق حواجز قد يكون على جميع من يهمّهم أمر نجاح الثورة عبورها في أسرع وقت ممكن. لعلّ من بينها: أوّلاً حاجز الذهنيّة. لقد حكم الطاغية طيلة هذه السنوات لأنّه حوّل الاستبداد إلى ثقافة أو لنقل إلى ذهنيّة. فجعل البعض عدوّا للبعض الآخر، وحاول أن يجعل من كلّ منهم طاغية في مجاله. ولم يصنع الشعب ثورته إلاّ حين تمرّد على هذه الذهنيّة. وعلى بعض النخبة السياسيّة أن يقدّم رسائل أكثر وضوحًا ممّا نراه ونسمعه حتى الآن، يؤكّد القطع مع كلّ ما يمتّ إلى الذهنيّة البائدة التي من شأنها أن تشدّ إلى الخلف. فالقطع مع النظام السابق ليس قطعًا مع مؤسّساته أو رموزه فحسب، بل هو تحديدًا قطعٌ مع رأسماله الرمزيّ المتمثّل في ذهنيّته وخطابه. ثانيًا حاجز اللغة. لقد تكلّم الشعب لغة جديدة كي يثور على الطاغية. لغة استبطنت بشكل أو بآخر حصيلة القيم الثوريّة واستعاراتها الكبرى على امتداد التاريخ، لكنّها تجذّرت في واقعها التكنولوجيّ والاتّصاليّ والمعرفيّ الحديث، وأبدعت مفرداتها وأدواتها من هذا الزمن المنفتح على المستقبل، الذي يعرف جيّدًا أنّ الأداة الجديدة لا نجاعة لها إذا كانت مجرّد وعاء لمضمون قديم. وعلى النخبة السياسيّة بمختلف أجيالها أن تبدع وتستنبط أكثر، كي لا تبدو على مسافة من هذا الجيل الجديد رؤًى وأحلامًا ولغةً. وثالثًا ولعلّه أوّل الحواجز المطلوب عبورها: حاجز الثقة. لقد أثبت البحث الفكريّ والتجربة الميدانيّة منذ عقود إن لم نقل منذ قرون، أنّ مفهوم الثقة ليس مجرّد تهويم وجدانيّ خال من كلّ نجاعة إجرائيّة، بل هو شرط أساسيّ من شروط نجاح كلّ مشروع جماعيّ، وعلى رأسها المشاريع السياسيّة. إلاّ أنّ الثقة الغائبة أو المغيّبة، والمطلوب حضورها في هذا السياق ليست توقيعًا على بياض وليست مصادرة على النوايا المُعلنة. إنّها استحقاق يتمّ بناؤه لبنةً فوق أخرى ويتمّ اختباره على محكّ المقارنة المستمرّة بين الشعار والممارسة. ولعلّ من بين أسباب قيام هذا الغياب كحاجز لابدّ من تجاوزه، أنّ هذا الشعب لُدِغَ من جحر الثقة أكثر من مرّة على امتداد عقود. لذلك من حقّه اليوم أن يُطالب بجسور أكثر متانة وأكثر وضوحًا لبناء الثقة. وهي جسور تتطلّب من النُّخب السياسيّة رسائل واضحة تؤكّد أنّها تثق في نفسها أوّلاً وأنّ بعضها يثق في بعض ثانيًا. إذ ليس من شأن تبادل التهم إلاّ أن يجعل صورة النخبة السياسيّة ككلّ تلتبس بصورة من لا ثقة له في نفسه. ممّا يعيد إلى الأذهان سؤال غوته: كيف يمكنك أن تكسب ثقة الآخرين إذا لم تكن لديك ثقة في نفسك؟