إنه من المعلوم أن قضاة التحقيق لم يكونوا يمارسون التحقيق بل كانوا في أغلب الأحيان يفوضون صلاحيات التحقيق إلى الشرطة العدلية بمقتضى إنابات عدلية وذلك في أغلب القضايا الجزائية. ثم يتقيّدون بمحاضر الشرطة ويتبعهم في ذلك أعضاء المجالس الجناحية والجنائية. وإذا منح، اليوم، الشعب التونسي اختصاصا مطلقا للقضاء للتحقيق مثلا في انتهاكات حقوق الإنسان وإطلاق النار على المحتجّين، وإذا منح قضاة التحقيق إنابات عدلية للشرطة، فهل نثق في الشرطة لتحقّق مع رجال الأمن؟ قطعا، لا. ثم والأهم من ذلك كله، إلتأمت يوم 19 ديسمبر 2011، جلسة عامة انتخابية لجمعية القضاة التونسيين وفي ذلك اليوم قام رجال الأمن باحتجاز القاضية كلثوم كنّو في منزلها ومنعوها من الالتحاق بمكان تلك الجلسة. ولم يصدر عن القضاة أي موقف استنكاري أو تنديدي لتصرفات وزارة الداخلية تجاه زميلتهم. وكان الصمت مطبق ومعبّرا عن خضوع تامّ للسلطة السياسية. قد يقول لنا القضاة إن الثورة لم تقم بعد آنذاك وأقول لهم إن المحامين مثلا، اعتصموا بمقرّ هيأة المحامين وبدار المحامي، يوم 31 ديسمبر 2011. احتجاجا على اختطاف زميليهما شكري بلعيد وعبد الرؤوف العيادي، والثورة لم تكن قد قامت بعد آنذاك... لقد تخلى القضاة عن زملائهم المضطهدين كما تخلوا عن زميلهم مختار اليحياوي قبل ذلك، فما الذي يضمن لنا اليوم أنهم لن يتخلوا عن الشعب؟ يطلب منا القضاة اليوم، أن نثق فيهم للتحقيق في قضايا الفساد وانتهاك حقوق الإنسان، فهل نسوا أو تناسوا أنهم منذ أقل من شهر، من أعدّ قرار إحالة الرئيس السابق وبعض أقاربه؟ إن إصدار قرار الإحالة ذاك هو من اختصاص وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس وهو قاض. وعموما تمحورت التهم حول جرائم مصرفية وديوانية. وقد وصف المتدخلون في قناة «نسمة» التلفزية في تلك السهرة، هذه التهم بأنها «لم تكن في مستوى تطلعات الشعب التونسي...» (!!). فوكالة الجمهورية ومن ورائها النيابة العمومية بأكملها، لم تقدر حتى على توجيه تهم «تليق» بمقام الرئيس السابق، فكيف نثق بهؤلاء القضاة لتكييف الأفعال المنسوبة لممارسي الفساد والإنتهاكات. ومن جهة أخرى ، قال القضاة إن اللجنتين المذكورتين ستتدخلان في ميدان القضاء فكيف توصلوا إلى هذا الإستنتاج والحال أن النص المنظم لاختصاص وصلاحيات اللجنتين لم يصدر بعد ؟ ألا يعد هذا الإدعاء نوعا من استباق الأحداث قصد التأثير على الرأي العام وحمله للضغط على الحكومة لحل اللجنتين ؟ ثم إنهم قالوا إن لجنة مقاومة الفساد خرقت الفصلين 99 و 100 من مجلة الإجراءات الجزائية حين دخل أعضاؤها أحد منازل الرئيس السابق وقاموا باحتجاز أموال ومجوهرات وأودعوها بالبنك المركزي والحال أن القضية منشورة أمام عميد قضاة تحقيق ابتدائية تونس وعبّر القضاة عن خشيتهم من إمكانية تمسّك المحامين، أثناء المحاكمة ببطلان تلك الإجراءات نظرا الى غياب أذون قضائية لذلك الغرض. كما عبّر القضاة عن خشيتهم من انتهاك حقوق الدفاع وقرينة البراءة التي يتمتع بها كل مواطن... وهنا أقول بأنه ما دامت القضية منشورة أمام عميد قضاة تحقيق ابتدائية تونس، فلماذا لم يسارع بإصداره البطاقات القضائية اللازمة للقيام بما قام به أعضاء اللجنة؟ ثم إن أكثر ما يخيفني في كلام القضاة هو المنطق الإجرائي الشكلي الذي تمسكوا به إذ يبدو أنهم لم يفهموا كنه الثورة التي يريدون أن يخضعوها لإجراءات وشكليات والحال أن الثورة في أحد أوجهها هي تجاوز للإجراءات والشكليات ولو لمدة معيّنة. وأنا أطمئن قضاتنا بأن لا أحد سيتمسّك ببطلان الإجراءات وحتى إن حصل هذا فالشعب التونسي يعوّل على القضاة لعدم السير في ذاك الاتجاه، كما كانوا دائما يفعلون قبل 14 جانفي 2011. ومن جهة أخرى، دعا بعض القضاة يوم 7 فيفري 2011، إلى تكوين نقابة. وبغضّ النظر عن احتمال وجود تصفية حسابات مع جمعية القضاة، فإن من أهم ما يشدّ الانتباه في هذه الدعوة هو المهمّة الموكولة لهذه النقابة والمتمثلة في أن «النقابة طرف اجتماعي» يعنى «بدرس المصالح المهنية والمادية والاجتماعية للقضاة والدفاع عنها...» و«يتفاوض بإسمهم» فمع من ستتفاوض نقابة القضاة المزمع إنشاؤها؟ مع وزارة العدل أم مع وزارة الشؤون الاجتماعية التابعتين للسلطة التنفيذية؟ ألا يعدّ هذا دليلا صارخا على أن عددا من القضاة إن لم يكن أغلبهم ما يزالون يستبطنون دور التابع للسلطة التنفيذية؟ أليس هذا دليلا على شعورهم بالدونية إزاء السلطة التنفيذية؟ أليس هذا دليلا على أنهم ما يزالون لا يشعرون بعد بأنهم سلطة من سلطات الدولة متساوية مع السلطة التنفيذية إن لم تكن أرفع منها شأنا؟ فكيف يطلبون منا أن نثق فيهم للتحقيق مع أطراف تابعة للسلطة التنفيذية؟ في أكبر الثورات التي عرفها العالم في العصور الحديثة لم يعوّل الثوار على أجهزة قضاء الأنظمة الاستبدادية التي ثاروا عليها بل انتصبت «محاكم الثورة» لمقاضاة الأنظمة القديمة، فلماذا يحاول قضاتنا الأجلاّء الاستئثار بقضاء الثورة أو بصفة أدق الاستبداد بالسلطة القضائية؟ هذا إذا علمنا أن الدولة تتكون من ثلاث سلطات وهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وإذا علمنا اليوم أن نسبة هامة من الرأي العام تطالب بحل البرلمان وبإقالة الحكومة، فما الذي يمنعنا من المطالبة بحل الأجهزة القضائية ؟لا شيء سوى قليل من الخوف وكثير من الحياء... فلا تبالغوا يا سادتي القضاة في استغلال حيائنا وتخوفاتنا...! في الأيام الموالية ليوم 14 جانفي 2011، عبّر عديد المنتمين لقطاعات كانت تخدم مباشرة النظام السابق عن ندمهم وطلبوا المغفرة من الشعب التونسي وسواء كان ذلك عن حسن نيّة أو عن سوء نيّة. فإن تلك الخطوة كانت ضرورية لتحرير الذات من العبودية للنظام السابق... هذا ما فعله رجال الأمن والإعلاميون ولكن للأسف، هذا ما لم يفعله القضاة الذين ما يزالون يتعاملون مع الأحداث كعهدنا بهم، بتكبّر وعنجهيّة، فما آن الأوان ليتواضعوا ولينزلوا من عليائهم ويستلهموا من روح الثورة ليثوروا على الصنم الذي ما زال يسكنهم؟! بقلم: وليد العربي مساعد بالتعليم العالي في القانون