٭ بقلم: الأستاذان الحبيب خضر وعبد المنعم السحباني ليست الثورات من الأحداث الاعتيادية التي تتكرر في حياة الشعوب والأمم. وعندما تتحقق الثورة في بلد ما فمعنى ذلك أن هناك رفضا لمجمل المنظومة القائمة إن لم يكن كلّها. وهذا ما يبرر الحاجة لإرساء منظومة جديدة تحظى بقبول الشعب ويرى فيها بديلا عن سابقتها وقطعا مع ما أجج غضبه وفجّر الثورة. ولأن بلادنا عاشت ثورة مجيدة أراد الشعب من خلالها القطع مع منظومة كانت سماتها الأساسية الفساد والقهر والظلم والتفرد بالرأي وتخوين المخالف، ولأن القطع مع تلك المنظومة يفترض كخطوة ثانية إرساء البديل المنشود الذي يراد له أن يكون موسوما بمراعاة الكرامة والحرية والضرب على أيدي الفاسدين والمفسدين، فقد كان لزاما التفكير في أعلى هرم القوانين وهو الدستور. وسنّ دستور لتونس الثورة مهمة لا يمكن أن توكل لمجالس صورية دأبت على تزكية الانحرافات والتشريع لها، ولهذا كان المطلب الملح الذي تمسكت به الثورة بعد فرار رأس السلطة هو حل المجلسين الصوريين للنواب والمستشارين وتعليق العمل بالدستور الذي بات كالخرقة البالية لكثرة ما تناولته أيدي العابثين بالقص والتلفيق. وقد تمت الاستجابة لذينك المطلبين فكان لزاما التفكير في تكوين مجلس تأسيسي يتولى صياغة الدستور الجديد الذي يفترض أن يلبي مطامح تونس الثورة. المجلس الوطني التأسيسي اسم مركب من ثلاث عبارات أولاها «مجلس» وثانيتها «وطني» وثالثتها «تأسيسي». يقصد بالمجلس لغة المكان الذي يخصص للجلوس أما اصطلاحا فيشمل المكان أو الفضاء كما يشمل الأشخاص أو المجموعة المعنية بمجالسة بعضها. وأما الوطني فصفة الانتساب للوطن ورمزيتها في التسمية ترمي للتأكيد على أن وجهة المجلس ومرجعيته مرتبطة بالوطن دون غيره. وأما التأسيسي فهو نسبة للتأسيس الذي يعني إرساء الدعائم التي يمكن أن يقام عليها البناء. ويقصد بالتأسيس في هذا السياق التأسيس لإقامة بناء الدولة أي إقامة ركائزها الصلبة التي يمكن أن تحمل بعد ذلك ثقل هيكل الدولة. والمقصود بالمجلس الوطني التأسيسي هو مجموعة الأشخاص المنتخبين المخولين إرساء ركائز بناء جديد للدولة ككل. فهو سلطة أولى، مؤسِّسة ومنتخبة. وإن المجلس الوطني التأسيسي بصفته تلك سيتولى القيام بمهام جسام في بناء الجمهورية المنتظرة. فهو الذي سيتولى بالأساس صياغة دستور جديد يحدد معالم الدولة الجديدة بما يعنيه ذلك من تنظيم للسلطات وترتيب للعلاقة فيما بينها وتكريس للحقوق والحريات العامة والخاصة والحسم في مسألة هوية الدولة. كما أنه سيتولى جملة من المهام الثانوية (مقارنة بالمهمة الأساسية وليس بمعنى وظيفي) التي يقتضيها استمرار الدولة كمرفق عام من قبيل اختيار رئيس مؤقت جديد للدولة وتعيين حكومة مؤقتة جديدة ومراقبتهما والنظر في المراسيم الصادرة بعد قيام الثورة ومباشرة التقنين العادي بما تقتضيه متطلبات سير دواليب الدولة كسن قوانين المالية أو تقنين بعض المسائل الملحة. واعتبار لجسامة المهام الموكولة للمجلس الوطني التأسيسي وما ستلعبه النصوص التي سيصوغها وخاصة الدستور الجديد على صورة تونس في المرحلة القادمة على الأمدين القريب والمتوسط على الأقل فإن ترتيبات انتخابه تكتسي خطورة وأهمية تقتضي منا الوقوف عند بعض النقائص التي اعترت مشروع المرسوم المعروض للنقاش أمام الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. يجدر بنا ابتداء التوقف عند ملحوظتين منهجيتين. أولاهما أن اللجنة الفنية في الهيئة قد اقتصدت فيما لا حاجة للاقتصاد فيه عندما قدمت مقترحين مدمجين في نفس الأوراق. فهذا الاختيار قد أحدث اضطرابا في تقديم المشروع المقترح إذ وردت بعض النقاط في مقترح ولم ترد في آخر دون أن يكون هناك مبرر. أما الملحوظة المنهجية الثانية فتتعلق بسوء تنظيم وتبويب الأحكام من ذلك أن أحكاما تخص عضوية المجلس الوطني التأسيسي وفقدان العضوية فيه (وهي لا تكون منطقيا إلا بعد إعلان النتائج) قد وردت تحت عنوان «شروط الترشح» كما أن الأحكام المتعلقة بطريقة الاقتراع وردت قبل الأحكام المتعلقة بالحملة الانتخابية. زيادة على الملحوظتين الشكليتين السابقتين من المهم الوقوف عند بعض الملاحظات الأصلية التي تخص جوهر الأحكام المتصلة بانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وذلك في مرحلة ما قبل الاقتراع من ناحية ومرحلة الاقتراع وما بعده من ناحية ثانية. I / المسائل المتعلقة بمرحلة ما قبل الاقتراع: أ/ الترشحات: نكتفي في هذا المستوى بثلاث نقاط أولاها وردت مضطربة والثانية يجدر عدم إقرارها والثالثة تجدر إضافتها. 1/ اضطراب بخصوص مشاركة المقيمين بالخارج: من الجيد كون مشروع المرسوم ينص على مشاركة المقيمين في الخارج في الاقتراع (فصل 5) كما ينص على تمثيلهم بطريقة تضبط بأمر (فقرة أخيرة فصل 30 المقترح 2) إذا تم اعتماد التصويت على القائمات فقط. وهذا الحصر غير مبرر ويتوجب تعميم هذا الحق مهما كان نظام الاقتراع. 2/ الحضور الديكوري للمرأة في القائمات: يبدو أن عقلية الحرص على التوازن المصطنع كانت وراء الصيغة المقترحة في هذا الصدد. فقد نص الفصل 15 من مشروع المرسوم على مبدأ التناصف بين النساء والرجال والترتيب بالتناوب صلب القائمات. ونحسب أن هذا الموقف محكوم بنفس تقنيات الحكم السابق من حيث افتعال صورة تسويقية لديمقراطية شكلية ولحضور مصطنع للمرأة خاصة في ظل عدم تنصيص على أي حضور جبري لفئات أخرى كالشباب مثلا. لقد كانت المرأة والرجل صنوان في الثورة وفي سنين الجمر التي سبقتها، وقد تضافرت جهودهما ولا زالت ولكن المرأة كما الرجل حريان بأن يحتل كل منهما مكانه باستحقاق لا منة من طرف متفضل عليه. ولهذا فالأفضل احتراما لكرامة المرأة أن يحذف هذا الشرط وأن يترك الأمر لكل حزب ليبين موقفه من المرأة ممارسة لا قولا وانطلاقا مما لديه من طاقات نسائية يمكن أن تؤتمن على مهمة التأسيس. 3/ نقص يجدر تداركه في خصوص من لا يحق لهم الترشح: نص الفصل 16 من المشروع على عدة أشخاص لا يحق لهم الترشح للمجلس الوطني التأسيسي إلا بعد استقالتهم من المهام المكلفين بها كأعضاء الحكومة مثلا ولكن تلك القائمة لم تتضمن أعضاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. ونعتبر أن هذا من النقص الذي يجدر تداركه تفاديا لشبهات عديدة كأن يتم استغلال تلك الصفة لخوض حملة انتخابية مبكرة كما يحصل حاليا لبعض الأعضاء الذين بات المواطن يراهم ويسمعهم في كل المحطات التلفزية والإذاعية العمومية والخاصة. ونحسب أن مبدأ ضمان نزاهة الانتخابات وتساوي الحظوظ يفرض التمسك بهذه النقطة إذ لا مبرر للتمييز بين أعضاء الحكومة وأعضاء هذه الهيئة في مسألة الحق في الترشح.