سالت الدموع، علت الأصوات بالنحيب والشهيق، اعتصرت القلوب، اشتد التشويق بمرور الوقت حتى بلغ قمته ثم انفرج الوضع وتنفس الجميع الصعداء قبل أن تغمرهم السعادة. ليس هذا وصفا لشريط سينمائي بل هي أحداث واقعية شهدتها مؤخرا محكمة باجة الابتدائية حيث جرت محاكمة أم وابنيها بناء على شكوى قدمها ضدهم رب أسرتهم. تورطت الأم في هذه القضية بتهمة القذف العلني تجاه القرين (الزوج) فيما تورط الابنان اللذان تجاوزا عقديهما الثاني بتهمة الاعتداء بالعنف الشديد على السلف (الأب). وحسب الأبحاث فقد تقدم رب الأسرة قبل أيام بشكوى إلى مركز الأمن بجهته السكنية التابعة لولاية باجة وذكر أن زوجته وهي في العقد الرابع من العمر اعتدت عليه بالشتم ثم حرضت ابنيهما فاعتديا عليه بالعنف الشديد. وقد اعترف المشتكى بهم (الأم والابنان) بما نسب إليهم فتمت احالتهم على المحاكمة ولم يبق لهم أمل في النجاة إلا بتعبير الشاكي عن رغبته في اسقاط حقه في تتبعهم. وقد عاشت قاعة الجلسة بالمحكمة الابتدائية بباجة واقعة شبيهة بشريط سينمائي لا يمكن لمشاهده أن يتماسك عن البكاء. أما صورة الواقعة كما عشناها فهي كالآتي: نودي على الشقيقين الشابين الموقوفين فأخذا مكانيهما قبالة القضاة ثم نودي على أمهما فأخذت مكانها بينهما وحضر الأب المتضرر ووقف على يمين ابنه الأكبر وما كاد القاضي ينهي سؤاله للمتهمين عن حقيقة ما نسب إليهم من تهم حتى أسند الشقيق الأكبر رأسه على كتف والده وأحاطه بذراعيه ليقطع الصمت المخيّم على القاعة ببكائه المرير والمرفوق بالشهيق طالبا بذلك العفو والصفح فما كان من الأب إلا أن أسقط دعواه في شأن ابنه هذا. سجل القاضي ذلك وطلب موقف المتضرر بالنسبة للمتهمين الآخرين (الأم والابن الثاني) فرفض الأب في البداية اسقاط الدعوة في شأنهما لكنه تراجع في ذلك بالنسبة لابنه لتبقى زوجته المتهم الوحيد الذي سيصدر في شأنها حكما إذا لم يشملها الاسقاط. ظلّ الزوج متمسكا بحقه في تتبع قرينته، وأعاد القاضي السؤال مرارا «هل أنت متمسّك؟ ألا تريد اسقاط الدعوى في شأنها؟» وهو بذلك يحاول اقناعه بأن العفو والصفح هما أفضل وسيلة لاعادة لمّ شمل هذه الأسرة. ورغم هذا التكرار فإن المتضرر أصرّ على رفض الاسقاط. نظر القاضي إلى ممثل النيابة للحصول على موقفه الأخير مما دار من مداولات ليصدر اثر ذلك مباشرة ما يناسب من أحكام ولكن ممثل النيابة الذي عودنا رفض مطلب السراح أو المطالبة بتطبيق القانون في شأن كل من تثبت إدانته خرج في قضية الحال عن المألوف فبعد أن لاحظ تردد المتضرر طلب من القاضي إعادة توجيه السؤال إلى المتضرر حول مدى تمسّكه بتتبع زوجته. فاستجاب القاضي لهذا الطلب وكرّر السؤال المذكور عدّة مرات لأن المتضرر كان في كلّ مرة يلوّح برأسه معلنا عن رفضه دون أن يتفوّه ولو بكلمة واحدة. ولما أصر القاضي على أن تكون الاجابة لفظية نطق الزوج ولكن ليقول أنه قبل اسقاط الدعوة في شأن قرينته مما أحدث في القاعة ضجة مفادها أن الجميع قد تنفسوا الصعداء بفضل هذا القرار الصائب. حينها أسرع القاضي باصدار حكمه والمتمثل في ايقاف المحاكمة بمفعول اسقاط المتضرر لدعوته لينتهي بذلك شريط المحاكمة وتنجح هيئة المحكمة في إعادة لمّ شمل الأسرة.