بعد الترحم على شهداء ثورة 17 ديسمبر، الثورة الثقافية كما أراها من منظوري الخاص، أنها لم تكن ثورة جياع أو تشغيل أو كما يحلو للبعض تسميتها بثورة الياسمين، بل ضاربة في عمق الثقافة التونسية، والثقافة أوسع معنى من الحضارة لأنها كانت ثورة على المفاهيم واعطاء معنى جديد للحرية والكرامة والتحضر، وهي معان مغروسة في أعماق التونسيين منذ آلاف السنين، وما تعاقب تلك الحضارات المتعددة على بلادنا الا خير دليل على ذلك. غير أن هذا التغيير لم يكن أن يحصل لولا بعض المسببات التي أعطت الشرارة لشيء كان يتمخض في نفوس كل التونسيين، ولئن كان الشهيد محمد البوعزيزي(رحمة الله) هو منطلق هذه الشرارة، ونال صفة البطولة في إرساء ملامح هذه الثورة الثقافية، فان كافة فئات الشعب التونسي كانت على أهبة الاستعداد للإنجاز التاريخي. واني لأتساءل في هذا السياق، ألم تكن فادية حمدي، عون التراتيب البلدية، عنصرا فاعلا في اطلاق الشرارة، أيمكن أن نشعل نارا دون وجود عنصرين؟ عنصر فاعل وعنصر مفعول به! أن لا أسوي أبدا بين الضحية والجلاد! ولكن يعرف الجميع بأن صفعة أو شتم فادية حمدي لم تكن الا قطرة من سيل فكم من تونسي صفع وعذب ونكل به بدنيا أو معنويا، وكم من موطن عانى الأمرين من ممارسات الإدارات والاضطهاد، والظلم؟ ألم يكونوا كلهم بوعزيزي؟ وألم يكون الآخرون كلهم فادية حمدي؟ مع اختلاف عميق في الجرم؟ ولكن الطلعة البهية للثورة الثقافية أبرزت من خلال كل الممارسات الجادة بأن الشعب التونسي كتلة واحدة لا تتجرأ وأعطى مثالا يحتذى في العالم بأسره في التآخي والتآزر ونبذ الأحقاد والاحترام المتبادل، كما لاحظنا ذلك إبان هذه الثورة من انضباط ومؤازرة ولا يفوتني أن أنوه بالموقف الرجولي لرجال الأمن مثلا الذين تبرؤوا من أية ممارسات قمعية وطلبوا الصفح من الشعب وأبدوا استعدادهم الكامل للذود عن هيبة هذا الشعب العظيم. ولكل ذلك وغيره أليس من شيم الكبار الصفح والمغفرة؟ ألا يحق لنا الآن ويتوجب على شعب الثورة الثقافية النظر الى ما يجب إرساؤه من أسس لإنجاح هذه الثورة ذات البعد الدولي؟ ان انخرطنا في المعاقبة والتشفي لوجدنا نصف المجتمع في هيئة المذنب، فمحاسبة من امتصوا دماء الشعب وقتلوه أمر لاجدال فيه، والمصالحة من كانوا هم أنفسهم ضحية لجلاديهم من أبرز شيم التونسيين، وبالخصوص منهم من اكتوى بلهيبهم، ومنهم أجهزة الأمن(باستثناء القناصة ومن لف لفهم) والبعض من الإداريين والمتحزبين. ألا يمكن أن تبدأ هذه المصالحة من حيث انطلقت الثورة؟ ألا يمكن اعتبار فادية حمدي جزءا من احتكاك عود الكبريت، سواء كفاعل أو مفعول به، لانطلاق شرارة الثورة الثقافية؟ ألا يشفع لها ذلك لتكون مع البوعزيزي رمزا من رموز هذه الثورة؟ لكي تشعل فانوسا لتنير بيتك لا بد لك من السالب والموجب وبين البوعزيزي وحمدي سالب وموجب لإضاءة السبيل. أكرر رجائي لأهلنا في الجنوب بدء صفحة المصالحة الفعلية من حيث بدء المصباح في إضاءة السبيل! سبيل الانعتاق والحرية.