كانت جامعة «تحت السور» متعددة المشارب والنزعات، ولكنها التقت على صعيد خدمة الأدب والفن، وما يتفّرعان اليه من مسرح وأغنية وتمثيل، يقول الأستاذ الهادي العبيدي: «كنّا نقضي جلّ أوقاتنا في المقهى، فهو عبارة على مكتب جماعي، وعبارة على مكان اجتماعات ومناقشات، أحيانا حادة، ولكن دائما طريفة، نكتب على طاولة المقهى وهي ترتعش، لخلل دائم بها، ونُطلع بعضنا على ما نكتبه، ونطلق الدعابات والنكت، فينا من كان يرسم الكاريكاتير، ومن كان يقرض الشعر، ومن كان يؤلف للمسرح، ومن كان يكتب القصّة القصيرة، أو المقال السياسي، أو رسالة غرامية لصديقته، لكن الضحكة والابتسامة لا تفارقنا، رغم قلّة ذات اليد للأغلبية الساحقة من جماعتنا. كما كان مقهى «تحت السور» مكان لقاء لكل من يريد الاتصال بنا، وحتى عنوانا لنا لمن يريد مراسلتنا ولا يعرف عنوانا آخر لنا، فكثيرة هي الرسائل والبطاقات البريدية التي وصلتني بذلك العنوان» (18). وبهذا الاعتبار أصبحت هذه الجماعة، وقد ذاع صيتها الفني والأدبي، مقصد أرباب الصحف اليومية والاسبوعية ومقصد أهل الغناء والمسرح، يطلبون ما يريدون فيجدون ما يبتغون، يقول الأستاذ عثمان الكعّاك في هذا الاتجاه: «ثم إن كل إنسان أراد أن يتعلّم وإن كان أديبا او صحفيا يذهب الى هناك، وكل من أراد ان تحرّر جريدته، سما شأنه أو لم يسم، فلا بدّ ان يذهب الى هناك، فمن هناك؟ هناك عبد الرزاق كرباكة، من مدينة كرباكة بالأندلس (شوّاشي وشاعر أديب وبوهيمي، ومنشد للشعر الغنائي الفصيح والشعبي، ومؤلف للمسرحية ومُعارك للناس، وطيّب القلب وصديق للجميع)، وهناك محمود بورقيبة نفس البطاقة بلون أقلّ نضجا من اللون الأول وهناك السيّد الهادي العبيدي، والمرحوم محمد العريبي بطاقة أشدّ لونا من بطاقة السيد عبد الرزّاق كرباكة وهناك أناس آخرون لهم صحف، يدورون بالطبق لالتماس المقالات والقصائد والملزومات وغير ذلك» (19)، والحق إن جماعة «تحت السور» وإن كانت حياتهم تكتنفها الفوضى وعدم الاستقرار العائلي والمادي الا انهم جدّدوا الحياة الأدبية والثقافية، تجديدا شمل فنون الأدب المختلفة من قصة قصيرة وخاطرة ومقال، ومسرحية ركحية وإذاعية، وأغنية تهذّبت كلماتها وتنوّعت مضامينها، لتصبح فنا يؤدى بأسلوب يتناغم وتطوّر الذوق العام. وهنا ينبغي ان نذكر، دور محمود بيرم التونسي. وقد جاء الى تونس سنة 1932، بدعوة من السيد محمد بدرة، المناوئ لقدماء الدستوريين، ليكون القلم الذي يتصدى لهجمات حسين الجزيري صاحب «النديم» على كل من يخرج عن نهج اللجنة التنفيذية العام، فنهض محمود بيرم بذلك الدور بكل نجاح، ولكنه كان أديبا ايضا، إذ كان يكتب المقامة والقصة القصيرة والمقال الأدبي والنقدي، والمقال الساخر الذي ترتجف له الفرائص هنا وهناك، وفي الوقت نفسه كان على اتصال وثيق بجماعة تحت السور، حيث انتدب العديد منهم كالعبيدي والدوعاجي وأمثالهما، ليحرّروا معه جريدة «الزمان» فنهضوا بالمهمة على أحسن ما يرام، وعلى رغم انه ابتعد عنهم، ليؤسس هو جريدة «الشباب» وليؤسسوا هم جريدة «السرور» التي تولى أمرها علي الدوعاجي، إلا أنهم ظلّوا جميعا يقدّرون ريادته الأدبية والصحافية في تونس، ويثمنون عمله الايجابي في الأخذ بأيدي الكثير منهم، نحو الوجهة الصحيحة في المقاربات الأدبية والفنية والاجتماعية. نشاطه الفني والإذاعي والمسرحي وكما هو واضح، فإن الهادي العبيدي، الذي حرّر في الكثير من الصحف، من مثل: «الصواب» و«الزمان» و«السرور» و«السردوك» و«الوطن» و«الحياة» و«الزهرة» و«الثريا» و«الأسبوع»، والذي أصدر جريدتي «الصريح» سنة 1949 و«الفرززو» عام 1955، قد وجد الجوّ ملائما لممارسة أنشطته الأخرى، مثل المسرح الذي انتسب لعديد جمعياته كجمعية الاتحاد المسرحي، وتونس المسرحية، وألّف لذلك عديد المسرحيات، كعبد المؤمن بن علي وسالومي وقد ترجمها بالاشتراك مع صديقه البشير المتهني كما اقتبس روايات: «ضاع صوابي من أصحابي» و«ولد أشكون ها المغبون» و«الغيرة تذهب الشيرة» حتى إذا تهيأ الجو لنشوء الاذاعة بادر بتأسيس أول إذاعة عربية في تونس، مع صديق له يسمى عبد المجيد الشابي وعلى ملك أحد الفرنسيين، وهي المحطة المعروفة بمذياع تونس في عمارة الكوليزي. وقد قدّمت هذه المحطة عديد البرامج الدينية والاخبارية والأدبية والغنائية (20)، وعندما تأسست الاذاعة العربية الرسمية بإدارة الأستاذ عثمان الكعّاك سنة 1938، كان الهادي العبيدي ضمن ثلة مختارة من أدباء تونس، من الذين وقع عليهم الاختيار لتقديم عديد البرامج المتنوعة، حيث قدّم مترجمنا برامج عديدة، من بينها «في رياض الشعر الفرنسي» يعتمد ترجمة مقطوعات من الشعر الفرنسي، ومشاهد من مسرحيات فرنسية، الى شعر عربي فصيح، وهو عمل فيه تلقيح لأدبنا وتغذية لأدبائنا» وقد كان يشاركه في هذا البرنامج أديبان آخران، هما: جلال الدين النقاش ومحمود بورقيبة، وثلاثتهم لا تمكّنهم فرنسيتهم من النقل عنها الى العربية، ولكن الأستاذ عثمان الكعّاك، أصرّ على رأيه في الترجمة شعرا الى العربية، ولتسهيل مهمتهم ترجمها لهم نثرا، وهكذا أمكن لهم ان يترجموا الى العربية العديد من النصوص الفرنسية، في قالب عربي فصيح وموزون (21) أضف الى ذلك ازجاله وأغانيه التي كتبها لعديد المطربين والمطربات، كالهادي الجويني وفتحية خيري وحسيبة رشدي، وهي أغان يغلب عليها الطابع الاجتماعي والتربوي (22). الأديب وكما ترون فنحن بإزاء كاتب صحفي ومسرحي، ومترجم ومؤلف أغان، وصاحب مقال نقدي وأدبي، وصاحب دراسات أدبية متنوّعة، كثيرا ما ألقاها في شكل محاضرات على هذا المنبر أو ذاك، او نشرها عبر المجلات والجرائد، وفيها تتجلى مواهبه الأدبية لغة وأسلوبا، كما تتجلى فيها عناصر شخصيته الفكرية الداعية الى التجديد ومواكبة العصر المتطوّر دوما. واللافت حقا، ان الهادي العبيدي، الذي ارتبط بالصحافة منذ شبابه المبكّر، الى فترة متأخرة من حياته، لم يتخلّف فيها قطّ عن الوفاء بالتزاماته المهنية، الاخبارية والاجتماعية والسياسية والثقافية، قد أسهم إسهاما جيّدا، إن لم نقل غزيرا، في تعزيز العمل الأدبي العام، من خلال مقالاته ودراساته الأدبية والنقدية ومن خلال النصوص الابداعية، التي تعددت أشكالها ومضامينها. وكان من الأهمية بمكان، ان تجمع أعماله تلك، وأن تظهر لقرائنا في كتب، ليطّلعوا عليها ويستوعبوا مدى الجهد الذي توفّر عليه الهادي العبيدي، وليدركوا من ثمة تعدّد مواهبه في كل اتجاه فني وأدبي. والذي يهمّنا على كل حال ان آثاره التي جمعت الى حد الآن، قد وردت في ثلاثة كتب أولها بعنوان «تحت السور» وهو يضمّ المقالات الأولى التي نشرها في جريدة «الصواب» ابتداء من سنة 1927 كما يضمّ مقالات أخرى، لم ينشرها حسبما يبدو في الصواب، والغالب على هذه وتلك الطابع الأدبي والاجتماعي، وقد أشرف على جمع هذه المقالات، وتولى تبويبها وتقديمها ابنه الدكتور المعز لدين الله العبيدي، وقام بالتصدير لها الأستاذ توفيق بكار وتولّت مؤسسات ابن عبد الله نشرها في شهر أوت من سنة 1992. أما الكتاب الثاني فكان بعنوان «ألوان أدبية» وقد تضمّن أبوابا سبعة، هي على التوالي: خواطر كنش سفر محاضرات ودراسات ذكرياتي نقد مسرحي وسينمائي في رياض الشعر الفرنسي قصائد وهو كتاب يقدّم لكم الهادي العبيدي في أروع تجلياته، الفكرية والأدبية والابداعية ويقدّم لكم صورة واضحة عن مواهب الرجل المتعددة شأن العديد من معاصريه الكبار، في تونس وخارجها ايضا، وقد تولى ابنه أيضا، التمهيد للكتاب بعد جمع فصوله، وكتب مقدّمته الأستاذ أحمد الحمروني، وتولّت نشره دار «ميديا كوم» سنة 2000. أما الكتاب الثالث فقد جاء بعنوان «من أعلام الثقافة والسياسة» قام على جمعه وتحقيقه وتقديمه: الأستاذ البشير الشريف، وكتب تقديمه الأستاذ الحبيب بولعراس، وأصدرته وزارة الثقافة في سلسلة «ذاكرة وإبداع» في شتاء سنة 2002، ويضمّ بعد التعريف بمؤلفه الهادي العبيدي، أقساما ثلاثة، هي: شخصيات نضالية وسياسية شخصيات علمية وأدبية شخصيات فنية ومسرحية، وهو لعمري سفر غزير بالمعلومات الدقيقة عن مراحل مهمة من حياة تونس الثقافية والسياسية، ومحيط بما فيه الكفاية، بالكثير من أعلامنا وروّادنا الذين أسسوا بكل تأكيد نهضتنا الأدبية والثقافية وفتحوا الطريق لمن أتى بعدهم من الأجيال. شخصيته كان ذا ملامح جادة، يغلب عليها الهدوء، دقيق الملاحظة في ما يستمع اليه من حديث، وفيما تقدمه اليه من نصّ أدبي تريد نشره، صريح في مواقفه الشخصية وفي مواقفه العامة أيضا، حذر في علاقاته، كأنما يريدك ان تعرف أن هناك حدودا لا ينبغي لك ان تتجاوزها، بل قل ان التجارب علّمته بأن لا يبوح لك بأسراره، ولا بأسرار غيره من أدباء جيله، فهو لا يذكرهم الا بكل خير، وإلا بما يقتضيه الغياب الأبدي من أسف ورحمة، فإذا رآك جادّا في طلب الحقيقة، ساعيا الى الوقوف على تلك المرحلة التي كان أحد اطرافها البارزين، أشار عليك بالرجوع الى عناوين محددة، لجرائد ومجلات ودوريات وكتب، فإنها القادرة وحدها على تقديم المادة المعرفية والعلمية، التي تجيب عن كل اسئلتك الحائرة، وعلى ما تبتغي من الحسم في قيمة هذا أو ذاك، من الأدباء الذين نالهم الغبن أحياء وأمواتا. كان انطوائيا لا ينبسط في أحاديثه مع غيره بكل سهولة، ولكن أساريره تتهلل وأنت تحدثه عن نوادر هذه الجماعة الأدبية، التي كانت تتحرّك في هذا الركن أو ذاك من أركان المدينة الساهرة، قبل ان يتفرّقوا ليعود الكثير منهم، بنصّ أدبي يظل محل جدل ونقاش، قبل ان ينشر وبعده أيضا، كان حفيّا بالنصوص الجيّدة، يضعها في الصدر من صفحته الأسبوعية «الثقافة والأدب» فإذا لم تنل رضاه أهملها، ولم يترك لك مجالا لمراجعته فيها.