٭ المتلوي «الشروق»: كمال الشارني يستمر الهدوء في المتلوي وتستمر الامتحانات في ظروف طيبة إنما تحت المراقبة الصارمة لفرق الأمن والجيش الذين لم يفقدوا شيئا من تصميمهم على فرض احترام حضر التجوال ومواصلة البحث عن المطلوبين والمورطين في أحداث العنف المأساوية التي هزت المدينة منذ أسبوع. غير أنه يمكن الإحساس بسهولة أن استقرار الوضع حاليا هو ثمرة الحضور المكثف والصارم للجيش وأعوان الأمن، وأن الحالة النفسية للمدينة لم تهدأ بعد، في انتظار الحساب، حساب الذين أجرموا في حق الناس وتسببوا في سقوط كل ذلك العدد من القتلى والجرحى وكل هذا الرعب والخراب في المدينة من أجل عودة الثقة في القانون بدل اعتماد قانون الغاب والثأر والقتل على الهوية. إن مدينة المتلوي تشهد منذ يوم الجمعة الماضي ظاهرة مثيرة للقلق، وهي انتقال العشرات من سكانها للعيش خارجها أو التفكير بجدية للهجرة والانتقال للعيش في مكان آخر بعيدا عن أجواء الاقتتال وقصص الدماء المسفوحة في الفضاء العام بين أبناء العم. يقول لنا إطار في التعليم: «لا أدري كيف سنعيش في المستقبل بعد كل تلك الدماء التي سالت في الفضاء العام، إن ما يشغلني أكثر هو مستقبل الأبناء على إثر ما حدث». الأطفال قبل ذلك، في مدينة قفصة، حدثتنا امرأة في الخمسين من العمر تشتغل أستاذة ثانوي كيف أنها تؤوي لديها في بيتها زوجة أخيها وأبناءه الثلاثة الهاربين مما يحدث في المتلوي. تحدثت هذه الأستاذة بأسى عن الأطفال الذين يتعذبون بالأحلام المزعجة في نومهم ويفيقون كثيرا مفزوعين باكين وهم يتحدثون عن مشاهد القتل والسكاكين وطلقات البنادق وحالات القتل الجماعي. أصغر أطفال ابن أخيها عمره 6 سنوات، وهو يحاول أن يلهو بلعب قديمة لكي ينسى لكنه ينتهي دائما إلى ترديد عبارات التهديد والشتائم التي سمعها وبقيت في ذهنه من أيام الجمعة والسبت والأحد الماضيين. وفي يوم الأربعاء، رأى في قناة إخبارية معروفة مشاهد العنف والثورة في سوريا، فظن أنها في المتلوي وعاد يصرخ مرددا أسماء أشخاص قتلوا في الأحداث الأخيرة وتم التمثيل بجثثهم. تقول هذه المرأة بأسى: «لقد عاش أطفال المتلوي تلك الأحداث المأساوية مثل الكبار، وخلفت في نفوسهم جروحا عميقة». بعد ذلك، رأيت في بعض أحياء المتلوي رسوما رسمها أطفال صغار، كلها تحوم حول أناس يحملون أسلحة بيضاء وسيوفا وبنادق ويطلقون النار على بعضهم البعض، رسوم يغلب عليها لونان: الأسود للحرائق والأحمر للدماء والنيران، وقال لنا معلم شاب إن أطفال المتلوي بحاجة أكيدة إلى أطباء نفس ومنشطين متخصصين لإخراجهم من الأزمة النفسية التي تردوا فيها أثناء المواجهات الدموية بين أهاليهم في المدينة، يضيف بحيرة: «يعجز عقل الطفل عن فهم ما جرى، وخصوصا كيف تحول صديقه الذي كان يشاركه اللعب والدراسة في نفس القسم والمدرسة إلى «ابن العدو» المطلوب للانتقام والثأر. مشاعر طيبة وفي قفصة، تبحث عائلات كثيرة قادمة من المتلوي عن بيوت للكراء منذ أيام، «هربا من التوتر والعنف والتقسيم القبلي. ورغم أن الوضع هدأ كثيرا مقارنة بالأيام الفارطة فإن كثيرا من العائلات تفكر جديا في الهجرة من المتلوي. قال لنا كهل في الخامسة والأربعين من العمر يشتغل في قطاع البناء إنه يفكر جديا في مغادرة المدينة التي ولد فيها وفيها قبور آبائه وأعمامه للعيش في نفطة أو توزر، «لأني لا أرى المستقبل واضحا هنا في المتلوي، خصوصا لأبنائي». ثمة عائلات كثيرة هربت إبان أعمال العنف إلى خارج المدينة، وفي مساء «الجمعة الأسود»، كما يسميه البعض غادرت العديد من العائلات وخصوصا النساء والأطفال المدينة هربا لا يلوون على شيء، ولا يحملون معهم سوى أشياء قليلة نحو أقارب لهم في المدن المجاورة مثل أم العرايس والرديف أو مدن الجريد. وفي الأثناء، قدمت عدة قوافل من المدن المجاورة لمساعدة السكان في توفير العديد من حاجيات العيش اليومية، وفي هذا المجال يجب أن ننوه بما كنا شهودا عليه صبيحة الأربعاء وفعله عدد من أسرة بويحيى عندما تلقوا قافلة مساعدات فتولوا إهداءها مباشرة إلى سكان حي السوافة في محاولة أولية لاستعادة الثقة بين طرفي النزاع. ورغم المشاعر الطيبة التي أحاطت بمثل هذه الحادثة ورغم العديد من محاولات التقريب بين مختلف الأطراف على هامش انطلاق امتحانات الباكالوريا فإن المدينة ما تزال تعيش حالة احتقان واضح، ولم تتخلص بعد من مخلفات القتل في الفضاء العام والحرائق وإتلاف وسرقة الممتلكات. ورغم الحملات الأمنية التي ما تزال مستمرة، فإن استمرار وجود السلاح واستمرار هرب العديد من المتهمين ما يزال يمثل عائقا نفسيا كبيرا أمام محاولات الصلح. السلاح والهاربون ثمة مشكلتان كبيرتان تواجهان مدينة المتلوي بعد الأحداث الأليمة التي عاشها الناس، وهما مشكلة أسلحة الصيد ثم مشكلة المتهمين الهاربين. عمليا، ما تزال كمية كبيرة من بنادق الصيد في المدينة وحولها، وأغلب هذه الأسلحة دون رخص، لكن الناس تعودوا توارثها واستعمالها في ظل سلطة محلية تغلق عينيها تفاديا للمشاكل. قال لنا ضابط في الحرس الوطني: «إبان حكم بن علي، كنا نعرف الكثير عن هذه الأسلحة غير المرخصة، لكننا لم نكن نقدر على حجزها وتطبيق القانون لأن مثل هذا الإجراء يتطلب تطبيقه على الجميع وهو ما كان شبه مستحيل لأن العديد من الأشخاص المتنفذين كانوا فوق القانون ويحتمون بعلاقاتهم. إن أية محاولة لحجز بندقية عند شخص ما، يتطلب حجز الجميع، وإلا سيتم اعتبار ذلك استهدافا لأفراد عرش دون عرش آخر، لذلك فضلنا الصمت على الجميع، خصوصا وأن امتلاك سلاح الصيد يعتبر تقليدا اجتماعيا متوراثا هنا». وطالما ما تزال هذه الأسلحة طليقة في المنطقة فإن خطر تجدد المشاكل قائم خصوصا وأن عدة مصادر مطلعة تقدر عدد هذه البنادق بما لا يقل عن 400 قطعة سلاح. أما عن مشكلة الهاربين، فتقدرهم المصادر نفسها بما لا يقل عن خمسين شخصا، يشتبه في تورطهم في أعمال العنف والنهب والتحريض على الاقتتال. وفي هذا الإطار، يقول لنا إمام خمس في مدينة المتلوي: «لا يمكن أن تهدأ النفوس طالما أن العشرات من المتهمين بالقتل طلقاء أو يحظون بالمساعدة من أهاليهم، عندما أحاول أن أهدئ النفوس هنا، يقال لي: فلان الذي قتل أخي أو ابني طليق في المدينة، طالما هو طليق فلن أتردد في الثأر منه لما أملأ منه عيني». إنها حقيقة انهيار سلطة الدولة وتراجع هيبتها التي تجعل الناس يعودون إلى قانون الغاب، أو حتى قانون القبائل: «النفس بالنفس...»، والمطلوب في هذا الوضع هي إعادة هيبة الدولة عبر جهازي القضاء والأمن، أي تطبيق القانون بصرامة حتى لا يهمل أحدا من المتهمين أو المورطين، وخصوصا إعلام الناس بتطورات تطبيق القانون، حتى يستعيدوا الثقة في مؤسسات الدولة ويتخلوا عن تطبيق قانون الثأر.