لم تشكل نتائج الإنتخابات التركية مفاجأة كبيرة حيث كان متوقعا فوز حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب اردوغان لعدة أسباب أبرزها أولا: الإنجازات التي حققتها حكومة أردوغان على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وتطوير الخدمات الصحية والبنية التحتية للبلاد وتنشيط حركة التجارة والاقتصاد مع تقليص كبير للديون الخارجية، وتجاوز الأزمة المالية العالمية دون أن يشعر بتأثيراتها المواطن التركي وارتفاع دخل الفرد من حوالي 4 ألاف دولار عام 2002 إلى 10 ألاف دولار عام 2010. ثانيا: النجاح الذي حققته حكومة أردوغان وإنجاز العديد من الإصلاحات السياسية والدستورية التي جعلت نفوذ القيادة العسكرية وهيمنتها على القرار السياسي تتراجع بالاضافة إلى محاربة الفساد الإداري والمالي وترشيد الانفاق الحكومي ومكافحة المافيا المستشرية داخل الدولة ذات الإرتباط بالأجهزة العسكرية والأمنية والمعروفة ب (أرجنكون) والتي لاقت ارتياحا كبيرا لدى الشارع التركي ثالثا: طرح أردوغان لمشروعات طموحة لاسيما تعهده بصياغة دستور جديد للبلاد ينهي العمل بالدستور الحالي الذي سطره الجنرالات الأتراك على مقاساتهم في آخر انقلاب عسكري قاموا به ، ليمهد الدستور الجديد الأرضية للإعتراف بالهويات الوطنية داخل تركيا (الكردية، العربية، وغيرهم..) كذلك لغة الخطاب التي اعتمدها أردوغان وتركيزه على إبراز الأرقام التي تعكس إنجازات حكومته رابعا: عدم وجود معارضة سياسية تركية قوية وقادرة على منافسة حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة بسبب حالة التشرذم والإتقسام التي تعيشها المعارضة التركية خامسا: الدور الإقليمي الذي أصبحت أنقرة تلعبه منذ تولي أردوغان وحزبه السلطة، وعلى الرغم أن الناخب التركي يولي أهمية اكبر للشأن الداخلي والخدمات التي يتلقاها من الحكومة إلاّ أن تحوّل تركيا إلى قوة إقليمية يشعر المواطن التركي بالاعتزاز بوطنه ويقدر لحكومة أردوغان هذا التوجه. هذه الأسباب وغيرها ساعدت أردوغان على الفوز بنسبة تقارب 50٪ من أصوات الناخبين الأتراك وحصوله على 326 مقعدا رغم أنه لم يتمكن من الحصول على الأغلبية المطلقة (367 مقعدا ) في البرلمان التي كان يطمح لها لكن شعبيته زادت بنسبة 3.5٪. أما حزب المعارضة الرئيسي حزب الشعب الجمهوري (الكمالي) فقد فاز بنسبة تقارب 26% من أصوات الناخبين وحصوله على 135 مقعدا في البرلمان، بما يشير إلى أن شعبيته زادت بنسبة 5%. وتمكّن حزب الحركة القومية من العودة إلى البرلمان رغم الفضائح الأخلاقية التي طاردته خلال الحملة الانتخابية فقد فاز بنسبة تقارب 13 % من أصوات الناخبين وحصوله على 53 مقعدا في البرلمان، مع تراجع طفيف لشعبيته قاربت1.5% وهذا يشير إلى صلابة الحركة القومية والتفاف أنصارها حولها رغم أن جميع استطلاعات الرأي كانت ترجح انحسار الحركة القومية لكن نتائج الإنتخابات التركية تحمل في طياتها العديد من الرسائل من الناخب التركي لحكومة أردوغان وأحزاب المعارضة التركية أيضا لعلّ من أبرزها: أولا: أن الناخب التركي يجدد ثقته وبقوة في أردوغان وحزبه، لكنه في الوقت نفسه لا يعطيه الصلاحية بفرده لصياغة الدستور الجديد للبلاد ويطالبه بضرورة التوافق مع مختلف الأطراف السياسية والمدنية والمؤسسات الدستورية للخروج بصيغة توافقية ترضي مختلف الأطراف في الساحة التركية ثانيا: أن الناخب التركي يعبّر عن مساندته للسياسات التي ينتهجها أردوغان وحزبه في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإصلاحات السياسية ومحاربة الفساد وكذلك السياسة الخارجية ويدفعه لتحقيق المزيد لاسيما تعهده بجعل تركيا الرقم 10 في الاقتصاديات العالمية ثالثا: أن النتائج التي حصلت عليها أحزاب المعارضة (حزب الشعب الجمهوري، الحركة القومية، والنواب المستقلون ومعظمهم من الأكراد ) لا يمكن الإستهانة بها وستجعل مهمة حكومة أردوغان صعبة جدا في تمرير الاصلاحات السياسية والدستورية، وهذا الأمر في غاية الأهمية لأنّه يحقّق حالة من التوازن في الساحة السياسية التركية ولا يطلق يد أردوغان وحزبه ليقرّر ما يشاء، فنتائج الانتخابات تقول بأنه فوز مشروط لأردوغان. من الواضح جدا أن أردوغان وحزبه قد استطاع هذه المرة الحصول على أصوات من مختلف التيارات والشرائح بما فيها العلمانية والقومية والكردية الأمر الذي مكّنه من افتكاك مواقع عديدة كانت تعرف كقلاع للأحزاب العلمانية مثل مدينة مرسين المطلة على البحر المتوسط، كما أن طريق أردوغان أمام منصب رئاسة الجمهورية قد أصبح مهيئا حيث تعتبر نتيجة الانتخابات تصويتا مباشرا لصالحه لكنه من الواضح انه لن يتمكن من تغيير نظام الحكم إلى نظام رئاسي وقد بدا واضحا أن نزعة القومية التركية كانت بارزة في نتائج الانتخابات من خلال قراءة خارطة الناخبين لفائدة حزب أردوغان وحزب الحركة القومية وهذا يشير إلى أن القوميين الأتراك يتكتلون بسبب تعالي اصوات الأكراد المطالبين بحكم محلي ومطالب أخرى يراها الأتراك ذات سقف عالي ممّا لاشك فيه ان السياسة الخارجية التي انتهجها أردوغان وحكومته خلال السنوات الماضية ستشهد توسعا أكبر بما يشير إلى دور أقليمي لتركيا اكثر تأثيرا، وقد ألمح أردوغان إلى هذا التوجه حينما قال أن انتصار الديمقراطية في تركيا هو انتصار للشرق الأوسط والمنطقة العربية والإسلامية أيضا. د. محمد العادل مدير المعهد التركي العربي للدراسات بأنقرة