اصدار بطاقات إيداع في حق مسيري جمعيتين اثنتين ومسؤولين سابقين بعدد من الإدارات ( محمد زيتونة)    مدير معهد الإحصاء: كلفة انجاز التّعداد العامّ للسّكان والسّكنى لسنة 2024 تناهز 89 مليون دينار    وزير التشغيل والتكوين المهني يؤكد أن الشركات الأهلية تجربة رائدة وأنموذج لاقتصاد جديد في تونس    تونس في الإجتماعات السنوية للبنك الأوروبي لإعادة الأعمار والتنمية(BERD).    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    قابس: تراجع عدد الأضاحي خلال هذه السنة مقارنة بالسنة الفارطة (المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية)    وزير الداخلية الفرنسي: الشرطة قتلت مسلحا حاول إشعال النار في كنيس يهودي    بن عروس: اندلاع حريق بمستودع قديم وغير مستغل    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    بطولة العالم لالعاب القوى لذوي الاعاقة : التونسي احمد بن مصلح يحرز برونزية مسابقة دفع الجلة (صنف اف 37)    تفكيك شبكة لترويج الأقراص المخدرة وحجز 900 قرص مخدر    القيروان :الاحتفاظ ب 8 اشخاص من دول افريقيا جنوب الصحراء دون وثائق ثبوتية يعملون بشركة فلاحية    الحماية المدنية: انقاذ طفل على اثر سقوطه ببئر دون ماء عمقه حوالي 18 متر    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    بن عروس : انطلاق ملتقى الطاهر الهمامي للإبداع الأدبي والفكري في دورته العاشرة    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    الخارجية الألمانية.. هجمات المستوطنين على مساعدات غزة وصمة عار    رسميا.. سلوت يعلن توليه تدريب ليفربول خلفا لكلوب    اكتشاف جديد قد يحل لغز بناء الأهرامات المصرية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    سعيّد يأذن بتنقيح فصولا من المجلة التجارية    قيس سعيد يُعجّل بتنقيح الفصل 411 المتعلق بأحكام الشيك دون رصيد.    أب يرمي أولاده الأربعة في الشارع والأم ترفضهم    إرتفاع قيمة صادرات المواد الفلاحية البيولوجية ب 24،5 %    أولا وأخيرا ..«سقف وقاعة»    خلال لقائها ببودربالة...رئيسة مكتب مجلس أوروبا تقدّم برنامج تعاون لمكافحة الفساد    عاجل/ إسبانيا تتخذ اجراء هام ضد الكيان الصهيوني..    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    دقاش: افتتاح فعاليات مهرجان تريتونيس الدولي الدورة 6    وزير الفلاحة: المحتكرون وراء غلاء أسعار أضاحي العيد    الديوانة تحجز سلعا مهربة فاقت قيمتها ال400 مليون    حاولوا سرقة متحف الحبيب بورقيبة الأثري...القبض على 5 متورطين    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    المنستير: عدد حجيج الولاية لموسم الحج الحالي بلغ 590 حاجا وحاجة    تقريرنقابة الصحفيين: ارتفاع وتيرة الاعتداءات على الصّحفيين في شهر أفريل    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البطولة العربية للأردن : تونس تشارك ب14 مصارعا ومصارعة    570 مليون دينار لدعم الميزانيّة..البنوك تعوّض الخروج على السوق الماليّة للاقتراض    عاجل/ أمريكا تستثني هذه المناطق بتونس والمسافات من تحذير رعاياها    إتحاد الفلاحة: المعدل العام لسعر الأضاحي سيكون بين 800د و1200د.    اليوم.. حفل زياد غرسة بالمسرح البلدي    القصرين: وفاة شاب في حادث مرور    بعد تسجيل الحالة الرابعة من نوعها.. مرض جديد يثير القلق    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    عاجل : ليفربول يعلن رحيل هذا اللاعب نهاية الموسم    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    سنتكوم: تفريغ أول حمولة مساعدات على الميناء العائم في غزة    النائب طارق مهدي يكشف: الأفارقة جنوب الصحراء احتلوا الشريط الساحلي بين العامرة وجبنيانة    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نزار شقرون ل«الشروق»: هناك إبعاد مقصود للمثقّف
نشر في الشروق يوم 07 - 07 - 2011

هل كان اختيار المجلس التأسيسي خطأ؟ سؤال طرحه الشاعر نزار شقرون الذي اعتبر أن المسار السياسي بعد 14 جانفي حفّت به مجموعة من العثرات سرقت الثورة من البسطاء لحساب السماسرة ومحترفي السياسة.
نزار شقرون شاعر وكاتب مسرحي وناقد تشكيلي، حائز على الإجازة في اللغة والآداب العربية من كلية الأداب والعلوم الأنسانية بصفاقس وعلى شهادة الدراسات المعمّقة في علوم وتقنيات الفنون أختصاص نظريات الفن من المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس وعلى الدكتورا الموحّدة في علوم وتقنيات الفنون اختصاص نظريات الفن من المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس.
من أعماله محنة الشهر، رقصة الأشباح وصدرت له مجموعة من الأعمال الأدبية والمسرحية أحدثها «رواية الثورة» الصّادرة بعد 14 جانفي. «الشروق» التقته في هذا الحوار.
كيف ترى الواقع التّونسي اليوم بعد ثورة 14 جانفي؟
تعتبر الثّورة التّونسيّة ثورة «عصاميّة» لأنّها لم تتخرّج على يد أكاديميي السياسة الذين استفاقوا فجأة على وقع زلزال شعبي غير متوقّع، ورغم التّراكمات التي حدثت قبل «هذه اللحّظة التّاريخيّة»، ورغم مساهمة مناضلين سياسيين ونقابيين في الحراك الثّوري فإنّ فشل هذا الحراك في اصطناع قيادة سياسيّة نابعة من آمال القاعدة الشّعبيّة هو الذي يجعلنا اليوم نعيش مفارقات كبيرة لا يستفيد منها سوى بهلوانيّي السياسة. لقد طالبت الثّورة التّونسيّة بمطلبين أساسيين هما الحريّة والكرامة ويعني ذلك أنّنا أمام ثورة لا تتصدّى إلى نمط حياة المجتمع أو قيم الدّولة الحديثة التي ساهم في تركيزها مناضلون حقيقيّون منذ الاستقلال، وهي قيم وفيّة لروح الإصلاح الفكري والتّنويري التّونسي منذ أواخر القرن التّاسع عشر، ولكنّ ما يحدث اليوم ينذر بانتكاسة في مستوى هذه المطلبيّة الثّوريّة. هناك خطّة خفيّة لتحويل وجهة هذه المطلبيّة، فحين يوازي البعض بين لحظة الاستقلال ولحظة الثّورة يتناسون بأنّ هذا الشّعار يسمح لشريحة من المجتمع أن تنادي بكنس نصف قرن من التّحديث ورميه في بالوعة التّاريخ، وهذا ما نحن بصدد متابعته في الغرفة المظلمة لبعض التيارات السياسيّة حيث ينظر إلى الثّورة كبداية كليّة للمجتمع التّونسي، أي خريطة طريق جديدة لسلّم القيم في المجتمع وهو ما سيجرّنا بعد أشهر إلى تحدّيات كبيرة وجدل قد يهدّد السّلم الاجتماعي. ومن ناحية ثانية فإنّ سمة الارتباك الحكومي منذ الثّورة وافتقاد النّجاعة في تحديد أولويّات المرحلة فجّر نوعين من الغوغائيّة، تعنى الأولى بغوغائيّة الأحزاب السياسيّة التي تعتبر تجاذباتها علامة صحيّة بينما لم تفهم بعد أنّها تخسر يوميّا ثقة غالبيّة الشّعب التونسي في جدوى الممارسة السياسيّة، وتعنى الثّانية بغوغائيّة أفراد وجماعات فقدت رجاءها في الوعود السياسيّة فمارست ضغطها العشوائي دون أن تجد فتحة أمل حقيقيّة لمطلبيّتها، وممّا يزيد في خطورة هذه الغوغائيّة هو تخبّط الإعلام في تجريب استنشاقه للهواء على حساب أوكسيجين الحقيقة. ويمكن أن نقتطع ظواهر غريبة لمرحلة ما بعد 14 جانفي، وهي «قلّة الحياء» عند عدد من الإعلاميين الذين لم يمتلكوا شجاعة الصّمت فتصدّروا نهد الثّورة، وإجماع المنابر الإعلاميّة في استضافاتها على قائمة موحّدة من الشّخصيّات لتلعب أدوار البطولة في فصول هذه المرحلة، ومن الظّواهر الأخرى تشعّب ملفّ القضاء وانسداد أفق تفكيك دوائره، وتنامي عدد الأحزاب السياسيّة التي لن تساهم في «الديمقراطيّة الديكوريّة» فحسب بل ستخلق وضعا كاريكاتيريّا فهي أحزاب يتشابه أغلبها في التّسميات وفي الأهداف وهي لن تعكّر سوى صفو العرسان الجدد في هذه الصّائفة بسبب خلقها ل«الأزمة الكرائيّة». ولكن أين الشّعب من كلّ هذه الظّواهر وغيرها؟ أين هو من حريّته وكرامته المنشودتين؟
كتب كثيرة صدرت منذ الثورة عن الثّورة وتفاصيلها وتداعياتها فهل هي استثمار للحدث أم مقاربات جديدة لما ترتّب عن الثّورة؟
نحن لم نعش إلى اليوم لحظة انتشاء بثورتنا، فمازلنا نتخبّط في غموض المرحلة وقد خلق هذا الشّعور انقباضا في مشهد الكتابة، فكلّما فكّر كاتب في تناول الثّورة التّونسيّة إلاّ وواجه الرقيب الدّاخلي، فقد خلّفت مرحلة الاستبداد انكماشا في إرادة الكتابة، ونسينا أنّ فعل الكتابة هو ليس من مشمولات الكاتب فحسب بل من مواصفات المواطنة على اعتبار أنّ فعل الكتابة هو ممارسة مألوفة في المجتمعات المتقدّمة التي لا ترى حرجا في أن يكتب الحدّاد سيرته الذّاتيّة، وبمثل ما أجّلنا لحظة الانتشاء فإننا اعتبرنا الكتابة عن الثّورة «ضرورة مؤجّلة» وهي ظاهرة غريبة لها شعارات كثيرة منها أنّ من يكتب عن الثّورة هو مستثمر فيها، ومنها أنّ الوقت لم يحن للكتابة عن ثورة ما تزال تسطّر مرحلتها وكأنّ هناك توقيتا ميتافيزيقيا للكتابة أو هناك مرسوم رئاسي سيصدر لتشريع الكتابة عن الثّورة، ومنها أنّ الكتابة عن الثّورة تتطلّب مسافة زمنيّة وموضوعيّة علميّة بل هي من مشمولات الأكاديموس من مؤرّخين وسوسيولوجيين وكأنّ حقّ الكتابة يشترط كهانة علمويّة. أعتقد رغم وجاهة بعض هذه الشّعارات من حيث تخوّف رافعيها على قيمة الكتابة ذاتها فإنّ الكتابة عن الثّورة في هذه المرحلة لها أكثر من ضرورة، ومن شأنها أن تسجّل تفصيلات وأحداثا مهمّة قد يهملها الخطاب التّاريخي لاحقا، ويبدو لي أنّ أيّ موقف عدائي لهذا النّوع من الكتابة يضمر نيّة إقصاء الكاتب التونسي عن المشهد وهو ما يتأكّد في أكثر من مستوى. ولقد كنت مدركا لهذه الوضعيّة عند كتابتي ل»رواية الثّورة التّونسيّة» مثلاً، وهو كتاب يسعى إلى تدوين وتسجيل الأحداث التي عاشتها الثّورة دون ادّعاء امتلاك الحقيقة، فمن يملك حقيقة ما وقع ويقع؟ أليست الحقيقة هي الخاسر الأكبر في مثل هذه الأحداث الكبرى في التّاريخ؟ ولكن ما سجّلته في الكتاب هو شهادة على أهمّ المنعطفات التي راجت في ذاكرتنا البصريّة قبل السّمعيّة و لم أكن في هذا الكتاب مؤرّخا أو عالم اجتماع بل كتبته من زاوية المبدع الذي يحقّ له أن يسجّل حقّه في المواطنة ككاتب قبل كلّ شيء. لذلك أعتبر أنّ الكتابة عن الثّورة حقّ طبيعي للكتّاب ولغيرهم أيضا، فلا يُعقل أن نواصل وأد الكتابة تحت أيّ شعار، ونواصل تكميم الأقلام باسم الثورة أيضا، ولنترك الحكم على هذه الأعمال إلى مرحلة لاحقة، إذ هناك من يريد محو الذّاكرة ومنع الكتابة بدعوى امتلاكه للحقيقة.
طرحت الثّورة مجموعة من الأسئلة على الواقع الثقافي ومؤسساته كيف تقيّم أداء جمعيات الكتاب الثلاث الاتّحاد والرابطة والنقابة؟
لا يمكن عزل أداء هذه الجمعيّات عن الوضع الثقافي العام، فكلّ طرف منها يسعى إلى تفعيل حضوره وتجسيم شعاراته وأهدافه، ولكنّ غلبة الاستحقاق السياسي في تونس جعل المشهد الثقافي شأنا ثانويّا، وتطرح الوضعيّة المؤقّتة آمالا مؤقّتة قد تتبخّر بعد رحيل ما هو مؤقّت لأنّ الثقافة لا ترتهن بجراحة جزئيّة وهي عكس السياسة فهي مرتهنة على الدّوام برؤية مستقبليّة لا تفترض نتائج سريعة، ويبدو أنّ المشهد الثقافي اليوم منتكس وهو في حاجة إلى مصارحة داخليّة بين جميع الفاعلين فيه، فلا يمكن أن نمرّ إلى مرحلة قادمة دون مصارحة حقيقيّة بين المثقّفين قبل كلّ شيء، وحين نتحدّث اليوم عن تعدّديّة في تمثيل الكتّاب مثلا فمن الضّروري تبيّن مرامي كلّ هيكل خارج منطق التّراشق ب»شرعيّة تمثيل الكتّاب»، وهذا يحتاج إلى نقاشات موسّعة بين هذه الأطراف، ولكن أخشى على الثقافة من حمّى السياسة، وأعتقد أنّ النّقد الذّاتي ضرورة ملحّة وما تستتبعه الثّورة هو السّماح بالحراك الدّاخلي لهذه الهياكل في إطار حريّة أوسع كما أنّ هذه الهياكل ليست مقدّسة وهي معرّضة للنّقد، وما يهمّنا في هذه المرحلة هو ماذا ستقدّم للكاتب وما الذي ستقدّمه للمجتمع؟
هل يحتاج الكاتب زمن الحريّة إلى إطار ينتمي إليه؟
ليس بالضّرورة، الإطار الكبير الذي يمارس فيه الكاتب حريّته هو نصّه بالدّرجة الأولى، و قد لا يحتاج الكاتب إلى إطار ينتمي إليه فليس ذلك من دوافع الكتابة أو شروطها وإنّما ينتمي الكاتب لأجل ضمان مبدأي الحريّة والكرامة قبل كل شيء، ثمّ أعتقد أنّ المرحلة القادمة ستفرض على الأطر مهمات جديدة كما ستفضي إلى مواصفات جديدة في علاقة الكاتب بالهياكل الثقافية عامّة وسط حراك اجتماعي وسياسي يفتح للكاتب مجالات واسعة للتعبير والنّشاط، و يتوقّف هذا أيضا على إعادة النّظر قبل كل شيء في مهام وزارة الثقافة ورؤيتها للكاتب التّونسي الذي كان ينتمي إلى بعض الأطر بسبب شعوره بالإهمال ولافتقاده للسّند، كما أفترض أنّ موقف الكاتب من الأطر سيتغيّر لأنّ احتياجه إليها قد يتقلّص نتيجة ولادة فضاءات غير تقليديّة. نحن أمام مرحلة جديدة ستضع فعل الانتماء في الميزان ولن تدفع بالضّرورة الكتّاب الذين كانوا خارج الأطر إلى الانتماء. ولكن جديد هذه المرحلة هو بحث الأحزاب عن تدجين الكاتب في صفوفها فهناك أحزاب تفتقر إلى كتّاب بالمعنى الإبداعي للكلمة، وسيقع الكاتب تحت طائلة لهاث الأحزاب في القنص كما وقع في السّابق تحت مساومات النّظام، فالسياسيّون يدركون جيّدا رغم إهمالهم الرّاهن لدور الكاتب أهميّة كسب الأقلام وتدجينها، ويعني ذلك أنّ الثّورة لن تتيح للكاتب استقرارا نهائيّا لحريّته بل إنّ مرحلتها الأولى تفضي إلى استراحته كمحارب ثمّ سيعود من جديد إلى نضاله من أجل المحافظة على استقلاليّته وحريّة أفكاره فحياة الكاتب لا تعرف غير النّضال الأبدي ضدّ كليانيّة الفكر الذي قد تمثّله الأنظمة بقدر ما تمثّله أحزاب لا تعني لها الثّورة إلاّ انتصارا لحقيقة أطروحاتها. لذلك فمعركة الكاتب مع الأطر والتّأطير ستستمر فالثّورة اليوم أفضت إلى ظهور أحزاب لها كرّاس شروط للكتابة تتعارض مع الثّورة بما أن كلّ أنواع السّلط هي إبداع متجدّد ومغامرة في الوجود، وسنشهد لاحقا مظاهر خنق الحريات الفرديّة للكاتب باسم حماية المجتمع من الهائمين في وديان التّفكير، ويضحى كلّ من يكتب أي من يفكّر عُرْضة للتّهجّم والمساومة، فهذه الأحزاب التي خضعت لقانون يحدّد طبيعة عملها غير قادرة على الفهم بأنّ الكاتب لا يرتهن بأيّ قانون يملي عليه طبيعة كتابته أو حدود مشروعه الإبداعي، فالكتابة خارج السّلطة أبدا ولهذا تستمدّ مشروعيّتها من تمرّدها الدّائم على كلّ أنواع السّلط فهل ستتفهّم الأحزاب مقوّمات شخصيّة الكاتب والكتابة أم ستتجاهل ذلك وتمارس بطشها المعنوي والمادّي بالكتّاب؟
هناك تجاذبات سياسيّة كبيرة كيف تقيم أداء المثقّف في الجدل السياسي؟
بالطّبع لا يستطيع المثقّف أن يؤدّي دوره الطّبيعي في هذه المرحلة إذا كان مُقصى من الإعلام المرئي خاصّة. ويعني الإقصاء رغبة واضحة في استبعاد وظيفة النّقد في هذه المرحلة، فالمثقّف أعني هنا المستقل هو من يحافظ على قدرته النقدية التي لا تستهدف السّلطة فحسب وإنّما الأحزاب السياسيّة أيضا، هذه الأحزاب التي تخشى المثقّف وستحاول استدراجه كي تسلم من نقده. ولئن ظهرت مبادرات مثقفين في الجدل السياسي الحاصل من خلال «ميثاق المواطنة» أو»نداء من أجل التزام ديمقراطي» فإنّنا نتساءل عن نجاعتها وسط غوغاء السّاسة رغم ما تطرقه من نواقيس الخطر الذي يتهدّد المجتمع التونسي، فالمثقّفون المستقلّون رغم محاولات التّكتّل عاجزون عن تحويل مطلبهم في المواطنة إلى حضيرة السّاسة، وهم يستشعرون الغبن لأنّ إقصاءهم المتعمّد يعني تهديدا حقيقيّا لقيم حداثيّة كثيرة لم تكن منعدمة في تونس بقدر ما كانت مضيّقة، ويشعر المثقفون بأنّ المرحلة الحاليّة أدّت إلى ظهور «سماسرة ثورة» لا يمكن الانخراط معهم في السّمسرة بآمال الشّعب، ولهذا لاذ المثقّفون بالجمعيّات المدنيّة للتّعبير والممارسة، ولكن رغم وفرة هذه الجمعيّات فإنّ صوتها منخفض قياسا بأبواق بعض الأحزاب.
لم نر برامج للأحزاب ألا ترى أنّ الثقافة هي آخر ما يعني أحزابنا التّونسيّة؟
كانت الثقافة في النّظام البائد «عجلة خامسة» وهي في جدول الأحزاب السياسيّة لا تخرج عن هذا التّعامل، ولتنظر إلى جميع أهداف الأحزاب أو لوائحها ستجد أنّ التّعرّض إلى المسألة الثقافيّة يأتي في الأسطر الأخيرة، حتّى أنّ التّعامل مع الثقافة في هذه المرحلة هو تعامل ديكوري وتجميلي، فالأحزاب منشغلة بالمعركة السياسيّة وهي تقيم اجتماعاتها العامّة والشعبيّة لأهداف سياسيّة بالدّرجة الأولى وتقحم في كلّ اجتماع «فقرة ثقافيّة» موسيقية أو شعريّة من باب إحماء الجماهير قبل المباراة. وأعتقد أنّ الأحزاب لا تملك برامج واضحة لهذا تتخفّى اليوم وراء شعارات المرحلة وهي مُعجبة بالوضع السّخيف للحراك السياسي لأنّه يغلق باب تكشّف ما هو استراتيجي ويجعلها في مدار المناورة اليوميّة والتّكتيك، وهو ما يعني أنّ الانتخابات القادمة لن تجعل من البرامج محكّها الحقيقي وإنّما ستكون الشّعارات الرّنّانة والجوفاء هي النّار التي ستلهب الحطب الجماهيري، ولهذا سعى البعض إلى الحفاظ على موعد الانتخابات لأنّ التّمديد يعني تقلّص زمنيّة اتّقاد الشّعارات وهو ما يهدّد بانكشاف الوجه الحقيقي لهذه الأحزاب. وهناك أحزاب ستلجأ إلى التّمسّك بالثقافة التقدّميّة التي ليست ناشزا عن تراث ثقافي تونسي تنويري وأخرى ستعتبر أنّ الثقافة لا تخرج عن صراط المرجعيّة الحزبيّة وهي ترفع اليوم شعارات ترتدّ بنا إلى معارك ثقافية سابقة خلنا تجاوزها. وستكون المرحلة القادمة مرحلة جدل ثقافي فمتى تهدأ طواحين الساسة تُصبح الثقافة في مرمى النّظر، ولهذا فإنّ الجدل الثقافي سيطفو من جديد على الساحة في تونس، ولكن للأسف الشّديد فإنّ أغلب السياسيين يتعاملون معه بعقليّة الثمانينيات والتّسعينيات ويريدون تكبيل قضايا الثقافة في «العراك القديم» على اعتبار أننا نشهد في تونس أحزابا «سلفيّة» في اليمين واليسار لأنّ السّلفيّة داء لا يميّز بين الاتّجاهات وإنّما يستوطن كلّ فكر يرى في القديم مرجعه الأساسي ونموذجه المتعالي عن التّاريخ.
ما هو موقفك كمثقّف من انتخابات المجلس التّأسيسي وألا ترى أنّ الأحزاب التحقت بالثّورة لتستثمرها لحسابها؟
في هذه المرحلة يعلو صوت الحشود لأنّ الثّورة التي جاءت لتمنح مزيدا من الحريات الفرديّة والجماعيّة على السّواء ها هي اليوم تفتكّ حقّ الفرد في التّعبير باسم مقتضيات المصلحة العامّة التي يخيط كسوتها اليوم محترفو الغوغائيّة السياسيّة، ولهذا فإنّ أيّ موقف فردي تجاه أية مسألة سياسيّة يُهدَّد باسم الثّورة لاعتباره خائنا لها أو متآمرا عليها، وهذا ما يعني أنّ مجرّد الاحتكام إلى العقل أمام «تسونامي» المشاعر يعتبر نوعا من «الثّورة المضادّة» وهذا مكمن الخطر. فالسياسيّون والحقوقيّون حوّلوا الثّورة إلى مبارزة قانونيّة، وأجبروا الشّعب على الانخراط في غبارها حيث أقاموا بداهات جديدة تقصي كل شخص لا يتكلّم اللغة القانونيّة، وصوّروا للشّعب بأنّ الثّورة أطاحت بالدّستور ولم تطح بالدّيكتاتور لهذا فمن أولوياتها القصوى ابتداع دستور جديد للبلاد، حتّى أنّ المواطن العادي الذي لم يقرأ في حياته دستور البلاد لن يفهم مقاصد المناداة المشطّة بجعل صياغة الدستور رهانا أوحد. ويبدو لي أنّ ثورتنا لم تطرح في شعاراتها الأساسيّة مسألة الدّستور وحين انساقت المجموعة الوطنيّة إلى طرح خيار المجلس التّأسيسي لم يكن هذا الخيار سليما من مقاصد تحويل وجهة الثّورة. من الصّائب القول إنّ طرح هذا الخيار تولّد عن إدراك بانسداد أفق الثورة وهي في بداياتها فقد أدّى اعتصام القصبة الثاني إلى هذا الخيار، ولكن هل كان الخيار صائبا فعلا؟ أعتقد أنّنا انسقنا كثيرا وراء الشّعار البرّاق الذي مكّننا رمزيّا من نكهة من يُحرّر بلدا من الاستعمار، واستهوتْنا حماسة كنس الماضي فكأنّ تونس الحديثة ولدت الآن. لقد كانت هناك خيارات عديدة أمامنا غير المناداة بمجلس تأسيسي، ولكن السّاسة الذين تدفّق خيالهم فجأة بعد 14 جانفي هم الذين دفعوا حماسة الشباب إلى هذا النّفق. بالطّبع لقد جعلوا من «سلطة الإجماع على المجلس التّأسيسي» وثنا جديدا لا يجب الخروج عنه، وهذه إشارة إلى أنّ من كان وراء خطّة المجلس التّأسيسي لن يعد الشّعب والمثقفين إلاّ بثقافة المحرّمات. وحين أعتبر أنّ نشوتنا بالثّورة لم تطلق بعد وأننا في كمّاشة السياسيين فذلك راجع إلى وقوع الثّورة في «أخطاء البدايات» وبالطّبع لا يحقّ لي أن أتحدّث عن أخطاء الثّورة إذ سيعتبر ذلك أمرا سابقا لأوانه في نظر الكهنة من السياسيين، حيث يجب أن نتمرّغ أكثر في الأخطاء حتّى نستطيع لاحقا أن نكتب عنها أو نشير إليها ! لذلك أرى بأنّ التّوجّه نحو خيار المجلس التّأسيسي فوّت علينا فرصا كثيرة للانتقال الدّيمقراطي، والغريب أنّ أغلب المتحدّثين في هذا الشّأن قدّموه للشّعب كخيار مطلق، وكلّ ما في الأمر أنّ الأحزاب «الراديكاليّة» التي تؤمن بحيازة الحقيقة المطلقة هي التي كانت الأعتى في طرح وتبرير هذا الخيار، وهي التي قدّمت هدف إعادة صياغة الدّستور كبوابة رئيسيّة للجنّة الأرضيّة مع أنّ التّمسّك بدستور 59 وإجراء إضافات قانونيّة لم تكن تفترض اللّجوء إلى «مجلس تأسيسي» بل إنّ هذا التّمشّي جرَّ المثقّفين إلى استشعار الخوف من الآتي ودفعهم إلى التّفكير في «مواثيق مواطنيّة» لأنّهم حدسوا أنّ مرحلة المجلس التّأسيسي ستضع قيم الحداثة التّونسيّة على المحكّ، وقد يندم كثيرون من ذوي النّوايا الحسنة على انخراطهم في هذا المسعى الذي قد يُجرّدهم يوما من حقوق بسيطة كانت من بديهيات المعاش الإنساني في تونس.
أجرى الحوار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.