قابس: إسعاف 15 تلميذًا بعد تعرّضهم للإختناق والإغماء    عضو بمجلس هيئة الانتخابات: لا يمكن تجاوز هذا التاريخ كأقصى موعد للرئاسية    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    المبادلات التجارية الجزائرية - الأوربية تلامس 47 مليار دولار    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    رئيس إتحاد الفلاحة: أسعار الأضاحي 'معقولة'    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    مصر: رفع اسم أبوتريكة من قائمات الإرهاب والمنع من السفر    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    تحذير: عواصف شمسية قوية قد تضرب الأرض قريبا    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    بسبب الربط العشوائي واستنزاف المائدة المائية .. قفصة تتصدّر خارطة العطش    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    بلاغ مروري بمناسبة مقابلة الترجي والأهلي    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    المنستير: إحداث أوّل شركة أهليّة محليّة لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    الحماية المدنية: 8 وفيّات و 411 مصاب خلال ال 24 ساعة الفارطة    كأس تونس: النجم الساحلي يفقد خدمات 4 لاعبين في مواجهة الأهلي الصفاقسي    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    عاجل/ القسّام: أجهزنا على 15 جنديا تحصّنوا في منزل برفح    والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور عبد اللطيف الحنّاشي ل«الشروق»: النظام السّابق دمّر المؤسسة الجامعية
نشر في الشروق يوم 14 - 07 - 2011

تونس قطعت منظومة الاستبداد وهيمنة الحزب الواحد لكن طريق الديمقراطية مازال طويلا وصعبا، هذا ما يراه الدكتور عبد اللطيف الحنّاشي أستاذ التاريخ الحديث في كلية الأداب والفنون والانسانيات بمنوبة.
كيف تقرأ التراكمات التي قادت تونس الى 14 جانفي؟
لقد عرف الاقتصاد التونسي منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي تحولات عميقة تولدت عن اندماجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي واعتماد برنامج الاصلاح الهيكلي وانضمام البلاد الى المنظمة العالمية للتجارة سنة 1994 وتوقيعها لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 17 جويلية 1995 وذلك بصفة تدريجية،ثم تحول الخوصصة من اجراء جزئي لمعالجة بعض مشاكل القطاع العام الى ايديولوجية تبناها النظام تولدت عنها كوارث لم نكتشف حجمها وعمقها الا بعد الثورة كما تضخم عدد العاطلين عن العمل بجميع أصنافهم وتنوعت أشكال البطالة(البطالة والبطالة المقنعة وغياب الاستقرار عن العمل و العمل غير المنتج.. )وتعددت الاحتجاجات الاجتماعية التي بلغت ذروتها في «انتفاضة منطقة المناجم التي تواصلت (من 5 جانفي الى منتصف جوان 2008) التي عالجتها السلطة بعنف شديد.كما تعددت الاضرابات التي تمت باشراف قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل وتشير البيانات الرسمية للاتحاد العام التونسي للشغل،في هذا الصدد،الى ارتفاع عدد الاضرابات من 382 (عام 2007) الى 412 (عام 2008) ليتراجع الى 361 ( في 2009) في الوقت الذي ارتفع فيه عدد الاعتصامات (لنفس الفترة)التي نفذها العمال في المؤسسات من 27 الى 28 ليصل الى 36 اعتصاما كما سجلت في نفس السياق احتجاجات شعبية محدودة ولكنها فارقة في مناطق أخرى مثل فريانة و الصخيرة و جبنيانة..
وترافق كل ذلك مع احتقان سياسي حاد وهجوم شرس على الناشطين السياسيين والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والصحافة.. صحيح ان لا احد كان ينتظر سقوط رمز سلطة الفساد يوم 14 جانفي غير ان تحاليل بعض الأطراف السياسية، من أحزاب اليسار غير المعترف بها خاصة، اشارت الى امكانية حدوث شيء ما، أقصاه انتفاضة شعبية كالتي وقعت في منطقة المناجم. ولكن بعد ما حصل في القصرين وتالة تغيرت الأمور واتخذت اتجاهات أخرى اذ توسعت الاحتجاجات والاضرابات في الجهات (وخاصة في المدن الكبرى)ثم كان انتقالها الى العاصمة كما كان للضغط القويّ المتواصل للقيادات الوسطى للاتحاد العام التونسي للشغل وقرارات الهيئة الادارية الموسعة دورا حاسما في ما وصلت اليه الأوضاع التي توجت بهرب رئيس الدولة ودخول البلاد مرحلة جديدة من تاريخها..
كيف تقيّم الخطوات التي تمّ حولها الاجماع مثل المجلس التأسيسي والهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة واللجنة المستقلة للانتخابات؟
اعتقد ان الاجماع، النسبي، الذي حصل حول المجلس التأسيسي واللجنة المستقلة للانتخابات بل وحتى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي قد عبّر بشكل أو آخر عن درجة متقدمة نسبيا من الوعي السياسي للنخبة السياسية والثقافية و الفكرية في البلاد.
غير أن تقييم أداء وتركيبة الهيئة العليا يتطلب في تقديري بحثا مستفيضا محايدا، يستند على معطيات موضوعية دقيقة ومتابعة واسعة من الداخل لا يتسّع لها المجال هنا غير أن ذلك لا يمنع من سوق بعض الملاحظات والانطباعات السريعة منها:
أن تشكيل الهيئة كان على درجة كبيرة من السرعة والاضطراب لذلك خضع اختيار الأعضاء الى حسابات واعتبارات تبدو أحيانا ذاتية وأخرى موضوعية غير محايدة. اذ لم تُحدد آلية انتخابية مُعيّنة أو مقاييس محددة وكنت أتمنى شخصيا أن تضم الهيئة أطرافا سياسية أخرى ذات مصداقية وفاعلية في الساحة وبعض الشخصيات الوطنية والفكرية المستقلة التي تتمتّع بمصداقية عالية و تجارب متنوعة. كما كنت أتمنى أن تكون فئة الشباب ممثلة بحجم اكبر في تلك الهيئة وكذا الأمر بالنسبة الى الجهات.
كنت أتمنى أن تكون ادارة الجلسات أفضل مما هو عليه الحال ايّ بأكثر شفافية ورحابة صدر.كما كان للهيئة مواقف باهتة أو متأخرة أو منعدمة أحيانا سواء من أداء الحكومة أو من بعض القضايا الاستراتيجية(قضية الديون) والأمنية والاجتماعية في حين كانت سريعة الاستجابة لأحداث لا قيمة لها، كان من المفروض ان لا تتفاعل معها الهيئة أصلا. كما كنت أتمنى أن لا تطرح بعض القضايا للنقاش والاقرار في صلب الهيئة أو على الأقل العمل من أجل ايجاد توافق حولها بين الأطراف السياسية داخل الهيئة حتى لا نصل الى ما وصلنا اليه من انسحاب بعض الأطراف السياسية سواء كانت مستقلة أو مُنَظّمة.. .. ولكن ورغم كل ذلك علينا ان نعِ خصوصيات المرحلة التي نحن بصددها والاقرار بأن الهيئة قد أنجزت اغلب المهام المنوطة بعهدتها من ذلك ايجاد النصوص و الآليات الضرورية لتحقيق الانتقال الديمقراطي في أفضل الظروف كالقانون الانتخابي للمجلس الوطني التأسيسي وقانون وهيكلة وتنظيم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات..
المهم في رأيي أن تعمل كل الأطراف من أجل انجاح الاستحقاق الانتخابي للمجلس التأسيسي الذي سيضع الدستور الجديد حسب الموعد المقرر لانتقال البلاد الى الشرعية الدستورية واستعادة المجتمع ثقته في الدولة والانطلاق لبناء الوطن على أسس سليمة وصحيحة، أي قيم الكرامة والأخوة والمساواة والتضامن والتآزر..
هل تعتقد أن تونس قطعت مع مرحلة هيمنة حزب واحد على الحياة السياسية؟
نعم، وأقول بدون تردّد إن تونس قطعت مع عصر هيمنة الحزب الواحد على الحياة ومع الاستبداد بمختلف أشكاله وأنها دخلت حقيقة عصرا جديدا وستصبح التعددية السياسية احدى الثوابت التي سيعمل المجتمع التونسي من أجل تثبيتها والمحافظة عليها والذود عنها. بل يمكننا القول إن العقود الخمسة الماضية التي عاشتها البلاد لا تتناسب مع طبيعة مجتمعنا ولا مع حجم ونوع التطورات التي عرفها عبر تاريخه. اذ تميزت تونس بتعددية سياسية واجتماعية وثقافية نوعية خلال فترة الاحتلال اذ بلغ عدد الدوريات التي صدرت بتونس بين 1881 -1956 نحو 338 دورية ناطقة بالعربية والعبرية الى جانب 975 جريدة ناطقة بالفرنسية و وصل هذا النشاط مداه خلال الفترة الممتدة بين 1945-1956 فصدرت نحو 145 جريدة باللغتين الفرنسية والعربية الى جانب مئات الجمعيات والمنظمات الثقافية والاجتماعية والرياضية والاقتصادية والمهنية. كما عرفت تونس التعددية الحزبية فإلى جانب «الحزب الدستوري،اللجنة التنفيذية» كان «الحزب الدستوري، الديوان السياسي»، و»الحزب الشيوعي التونسي» و«حركة»الاتحاد والترقي» و»الحزب القومي التونسي».. وكان من بين أهم هواجس النخبة المثقفة التونسية قبل الاستقلال النضال من أجل بناء نظام سياسي متطور يحترم الحريات الفردية ويصونها غير أن تلك النخبة التي تشبّعت بالمبادئ الديمقراطية الليبرالية بحكم اقامتها، لفترات متفاوتة، في فرنسا للدراسة، ومعايشتها للتجربة السياسية الفرنسية الغنية والحيويّة بكل تناقضاتها، ابتعدت بعد التحرير وبعد وصولها الى السلطة عن تلك الأفكار وتلك المبادئ و لم تسع الى اشاعة مناخ ديمقراطي كما لم تعمل من أجل بناء نظام ديمقراطي ليبرالي ولم تفعّل بعض الفصول «الديمقراطية»في الدستور بل قامت بتحويل المؤسسات والتقنيات والاجراءات الديمقراطية، التي أرستها الى أدوات للاجماع والتأييد بحجة تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الضرورية التي تمثل قاعدة أساسية وصلبة لممارسة الديمقراطية تارة، وبحجة صدّ المخاطر والتحدّيات الخارجية تارة أخرى وباسم الوحدة القومية في الغالب. وبذلك تم القضاء على صفة التعدد والتنوع في البلاد بعد القضاء على الصحافة شيئا فشيئا وبطريقة الموت البطيء ولم تبق الا الصحافة الموالية للحزب الحاكم كما تم حلّ الأحزاب أو تم دفعها للصمت والموت البطيء أما الأحزاب والتنظيمات الجديدة التي برزت بعد الاستقلال فاضطرت للعمل السري وتمت ملاحقة مؤسسيها ومنتسبيها والزجّ بهم في السجون.. ورغم كل ذلك تواصل النضال من اجل التعددية والديمقراطية ومن يدرس أدبيات الحركات السياسية التونسية المختلفة اليسارية والقومية والليبرالية منذ الاستقلال يلاحظ مدى تأكيدها على المسألة الديمقراطية. وما تفاعل النخبة السياسية والفكرية، بل الشعب التونسي ككل مع البيان الأول لحكم الرئيس الهارب،بما تضمّن من وعود للقطع مع الرئاسة مدى الحياة و الاعلان عن اقرار التعددية السياسية الا دليل على رغبة التونسيين في العيش في نظام ديمقراطي.وليس غريبا أيضا أن يعلن الرئيس السابق و قبل يوم واحد من هروبه عن عدم تجديد ولايته غير أن الخداع قد بلغ مداه و لم تنطل مجددا حيله التي استمر يحكم بها طيلة عقدين ونيف..
ألا ترى أن الديمقراطية في العالم العربي الاسلامي تجربة تحتاج الى زمن طويل بسبب بنية التفكير الاستبدادي؟
من الصعب الحديث عن «بنية تفكير استبدادي»عربي أو حتى اسلامي بالمطلق واعتقد ان توصيف الذهنية العربية بذلك يُعَدّ من الأخطاء الشائعة وغير العلمية. وقد بينت التجربة التاريخية ان بناء أنظمة ديمقراطية يتطلب وقتا وصراعا بل أحيانا حروبا وتضحيات فلم تصل أوروبا الى النظام الديمقراطي الا بعد قرون من الحروب بين دولها أو صراعات بين الشعب الواحد. كما تولدت الديمقراطية الأوروبية المعاصرة عن الثورة الديمقراطية البورجوازية التي اندلعت في فرنسا ثم امتدت الى الكثير من الدول الأوروبية بعد حرب 1884 وغزوات نابليون ثم تعزّزت بع الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطوريات وبروز الدول القومية(Etat nation) ونظام عالمي جديد يستند الى ديمقراطية هشّة سريعا ما أفرزت أحزابا و أنظمة فاشية ونازية كانت سببا في اندلاع الحرب العالمية الثانية التي أفرزت بدورها نظاما جديدا يستند على مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.. .أما بالنسبة الى العالم العربي فكان الأمر غير ذلك اذ وبعد السيطرة العثمانية الطويلة تمكنت كل من بريطانيا وفرنسا من احتلال المناطق العربية: الجزائر 1830 ثم تونس 1881 ثم مصر 1882 وليبيا 1911 والمغرب الأقصى 1911-1912 ثم المشرق العربي الذي وُضع تحت أنظمة الوصاية والانتداب وفي ظل الاحتلال برزت أحزاب عربية في كل مكان تقريبا بل وانتصبت البرلمانات في كل من العراق ومصر كما تأسست أول جمهورية عربية وهي الجمهورية الطرابلسة سنة 1918 التي قضت عليها ايطاليا ثم جمهورية الريف (شمال المغرب الأقصى)بين 1921-1926 التي قضت عليها فرنسا واسبانيا .. .كما عرفت لبنان و سوريا حكما برلمانيا وكذا الأمر بالنسبة الى مصر. كما ناضل قطاع واسع من المثقفين العرب من أجل تأسيس أنظمة ديمقراطية .. غير أن الأمر تغير منذ أن تأسست «اسرائيل»فأخذت الأنظمة البرلمانية في كل من سوريا والعراق ومصر تنهار الواحدة بعد الاخرى ودخلت المنطقة في ثقافة بيان رقم واحد تحت شعارات تحرير فلسطين والتنمية والوحدة الوطنية(التي لم يتحقق أي واحد منها للاسف) وبذلك تمّ القضاء على التجربة الديمقراطية الجنينية وهو نفس الأمر الذي تحقق بشعارات أخرى في تونس والجزائر وغيرها من البلدان.. لذلك لا يمكن حسب رأيي الحديث عن بنية تفكير استبدادي بل ضرورة البحث عن أسباب أخرى موضوعية. فهل بنية تفكير الهنود (بفقرهم ومعاناتهم وبقومياتهم) أو الماليزيين أو الاندونيسيين أو بعض الأفارقة هي اقل استبدادية من العرب؟
كيف تقيّم المؤسسة الجامعية خلال 23 عاما من النظام السّابق و ما هي أفاق ااستقلاليتها في ظل التجاذب السياسي؟
في الواقع لم يعرف التعليم الجامعي في بلادنا وضعا أسوأ مما عاشه خلال العقدين الأخيرين سواء بالنسبة الى الاطار التدريسي أو الطلبة أو الادارة ذاتها. عاش التعليم العالي كارثة حقيقية ضمن استراتيجية خبيثة وحتى المكتسبات التي تحققت تم القضاء عليها شيئا فشيئا اذ تحول شعار ديمقراطية التعليم الى شعار للاستهلاك كما لم تعد تمارس الجامعة وظيفتها الطبيعية التي تتمثل أساسا في تنمية المعرفة و الحسّ النقدي. وكانت عملية نشر الجامعات والمعاهد في كل مكان كارثة حقيقية باعتبار عدم استجابتها للحدود الدنيا الضرورية لاقامة مثل تلك المؤسسات من ناحية التجهيز وتوفير الاطار التدريسي الكفء علميا ومعرفيا .. بل خضعت لحسابات سياسوية ضيقة في الغالب.
لقد استهدف النظام السابق أساتذة التعليم العالي وحاول بكل الطرق الخسيسة شراء ضمائر وذمم البعض منهم اما عن طريق الترهيب أو الاغراءات بالمناصب الادارية والبعثات و تحول قطاع هام من الأساتذة الى مجرد مدرّسين و باحثين للضرورة، وغاب النقاش والجدل في قاعات الأساتذة ودخل الشكّ فيما بينهم وتفككت علاقات الزمالة ولكن ورغم ذلك ظلّ هذا القطاع صامدا مناضلا وهو القطاع الوحيد الذي دخل في اضراب اداري تواصل لمدة شهر كامل من اجل تحقيق مطالبه المادية والمعنوية ودفع من اجل ذلك ضرائب متعددة. ولعل من بين الانجازات المهمّة التي تحققت للقطاع بعد الثورة هو تعميم الانتخابات لتشمل كل مؤسسات التعليم العالي بدون استثناء بما في ذلك رؤساء الجامعات بعد أن كانت حكرا على الكليات فقط وهي خطوات تاريخية بأتمّ معنى الكلمة الأمر الذي سيساعد على تكريس الديمقراطية، التي بدونها لا يمكن ان يتقدم العلم والمعرفة. ولا شك أن ذلك سيكون اختبارا حقيقيا للهيئات التدريسية لمدى قدرتها على الحفاظ على هذه المكاسب اولا، واختبارا ثانيا للطلبة، باختلافاتهم السياسية والأيديولوجية، سواء من حيث قدرتهم على التعايش في ما بينهم في مناخ ديمقراطي ينبذ العنف بكل أشكاله ويدينه او مدى قدرتهم على التفاعل الايجابي مع محاولات تطوير الجامعة معرفيا واداريا. بل يمكن القول إن الجامعة ستكون نموذجا لاختبار مدى استعداد المجتمع للنظام الديمقراطي فالرهان كبير على وعي الطلبة بما تحقق وكيفية الحفاظ عليه وتطويره من خلال سلوكهم الديمقراطي الفعلي في كلياتهم سواء فيما بينهم أو مع مختلف العاملين في المؤسسات الجامعية
هل هناك خوف على تجربة المدنية والحداثة من هيمنة التيارات الدينية المتشدّدة؟
للأسف إننا نلاحظ في الساحة التونسية تضخيما شديدا من قبل بعض الأطراف، لدور مختلف التيارات الدينية في تونس ولامكانية تهديدها لما تحقق فيها من مكاسب مدنية. أعتقد أن تلك الأطراف تقوم، بوعي أو دون ذلك، بنوع من الدعاية السياسية لتلك التيارات كما انها تساعدها ضمنيا على التمدد والانتشار وذلك باثارة تلك الاطراف لبعض القضايا الهامشية ومهاترات أيديولوجية لا تخدم في الواقع المجتمع التونسي و لا تساعد في حلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحادة بل لا تخدم أصلا «الحداثيين»او من يدّعون حرصهم على مكاسب التحديث في تونس، في هذه الفترة على الأقل. كما نلاحظ للأسف أيضا ان هذا الخطاب وهو نفس الخطاب الذي تمكن النظام السابق من ترويجه وتكريسه بين النخبة التونسية.. هذا النظام الذي عاش طيلة عقدين ونيّف على «فزاعة» الحركات الاسلامية وتحت شعار التصدي و النضال ضد التيارات الدينية والحفاظ على مكاسب الجمهورية هو نفس النظام الذي فعل في البلاد والعباد ما لم يفعله أي دكتاتور آخر في التاريخ وكان ذلك باسم المحافظة على مكتسبات الشعب التونسي؟؟
أعتقد أن هذا الخوف، من تلك التيارات غير مبرر له الآن في تونس. ثم على القوى «الخائفة» من هذه التيارات عليها الوعي بأن تلك التيارات غير متجانسة في ما بينها بل أجزم القول انه في داخل التيار الواحد توجد تباينات واختلافات عميقة وان الاستمرار في وضعها في «كيس»واحد دون تمييز سيساعدها أكثر على التصلّب والتوحد. ثانيا علينا الاقرار بأن الثورة هي التي منحت بعض من هذه التيارات وجودا قانونيا كما منحت غيرها من التيارات والأحزاب مثل هذا الوجود. و لا اعتقد أن تلك التيارات قادرة على اتخاذ قرارات واجراءات تمسّ بعض المكاسب الأساسية التي تحققت في البلاد منذ زمن طويل في حال وصولها الى السلطة بل هي ليست من الغباء السياسي حتى تسعى في المدى القريب الى الوصول الى السلطة سواء لوحدها أو في اطار تحالفات سياسية فلا المجتمع يقبل ذلك و لا التوازنات الاقليمية والدولية تقبل بدورها بهذا الأمر، الا بضمانات محددة ثم إن الوجود القانوني لبعض هذه التيارات سيدفعها الى تقديم برامجها الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي بعض الحلول الواقعية لمشاكل الناس ولن تنفعها حينئذ الشعارات حتى لو كانت ذات طابع ديني، ولن يظل المجتمع مكتفياً باستهلاك الشعارات حتى لو كانت دينية و ثورية وستكون أمام امتحان عويص أمام نفسها ومبادئها وبرامجها وأمام المجتمع بل أمام العالم ككل لذلك نرى انه على جميع الأطراف الوطنية والديمقراطية استغلال المناخ الديمقراطي و فتح نقاشات مسؤولة مع تلك التيارات حول قضايا جوهرية تهم مستقبل المجتمع والابتعاد عن المهاترات الايديولوجية والتهم الجاهزة .ويستحضرني هنا نموذج «اسرائيل»والدور الضارب للقوى الدينية التي تمتلك مؤسسات خاصة بها بل مجتمعات موازية وهي قوى تمكنت من فرض الكثير من عاداتها وقيمها وسلوكياتها على الدولة والمجتمع ورغم ذلك ظلت تمثل احد أركان النظام «الديمقراطي الاسرائيلي» البغيض دون المساس بها. فهل تكون التيارات الدينية في تونس أخطر من التيارات الدينية في اسرائيل؟؟
هل تعتقد أن الاسلاميين في حال وصولهم الى الحكم قادرون على إنتاج نموذج عربي على الطراز التركي؟
قد يوجه هذا السؤال للاسلاميين التونسيين لأنهم اقدر منّا على الاجابة عن هذا السؤال وتقديم مقارباتهم بهذا الخصوص. ولكن كمهتم بالتيارات الاسلامية عامة والتونسية خاصة يمكنني تقديم بعض الملاحظات ذات العلاقة بسؤالك هذا.
وانطلاقا من صيغة السؤال يمكن القول بأن هناك تجارب اسلامية عديدة ومختلفة في الحكم كما توجد تصورات مختلفة حول الأمر.. كما نعتقد ان تلك الاجتهادات خاضعة لخصوصيات معينة.بالنسبة الى النموذج التركي، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، كان في الواقع وليد مجتمع يختلف عن المجتمع التونسي من عدة نواحي:تعدد الأعراق والديانات والطوائف كما لتركيا تاريخيا سياسيا يختلف عن تونس كما أن وضعها الجيو استراتيجي وامكانياتها الاقتصادية ومواردها البشرية هي شديدة الاختلاف عن تونس.. . كما تبدو تجربتها السياسية عامة و تجربة الحركة الاسلامية فيها تحديدا شديدة الاختلاف عن التجربة السياسية للبلاد التونسية.. حتى مسالة اللائكية في تركيا، التي يَكْثُرُ الحديث عنها هذه الأيام،لا علاقة لها بما عرفته تونس في بعض قوانينها أو اجراءاتها التي يعتقد البعض أنها ذات علاقة باللائكية لهذه الأسباب اعتقد أن تجربة تركيا لا يمكن أن تعمّم في تونس أو في غيرها من البلدان في حين قد تستفيد منها بعض التيارات الاسلامية وتحاول أن تحاكي بعض جوانبها..
اعتقد ان تونس تملك تجربة ثرية في الاجتهاد الديني والتطوير كما اعتقد أن القيادات «الاسلامية»في تونس على وعي بهذا الأمر ودون الذهاب الى التاريخ البعيد فتونس أنجبت العديد من رواد الاصلاح الديني لعل أشهرهم كان الشيخ عبد العزيز الثعالبي ومحمد الخذر حسين وبن عاشور الأب والابن وغيرهم كثيرون و لا تنسى أن الطاهر الحداد هو ابن جامع الزيتونة و كذا الأمر بالنسبة للشيخ راشد الغنوشي الذي تجد كتاباته رواجا واسعا عند تيارات اسلامية عديدة في البلدان العربية وحتى الاسلامية لذلك لا اعتقد أن الحركة الاسلامية في تونس برغم اعجابها بالتجربة التركية ستسعى الى استنساخها في تونس بل أقدّر أنها ستستفيد منها وأنها ستعمل على بناء تجربة أو نموذج تونسي يستند الى تراث البلاد والى تاريخها السياسي والفكري وربما الديني أيضا.
الى أين تسير تونس وما هي المخاوف على التجربة الديمقراطية؟
تعيش البلاد مرحلة انتقالية، تبدو صعبة ومعقدة. اذ تتزاحم فيها الأفكار والخيارات والقرارات والاجراءات والمبادرات، في الوقت الذي تتناسل فيه المشاكل وتتضخم العقبات.. تتجه البلاد اليوم نحو انتخاب مجلس تأسيسي واقامة هياكل تنفيذية انتقالية وصياغة دستور جديد ثم اجراء انتخابات عامة تهم المجلس التشريعي و الهياكل التنفيذية المركزية و المحلية والجهوية.. وستتم تلك العملية على مدى نحو سنة ونصف أو أكثر قليلا وهو ما يعني ان البلاد وخلال تلك الفترة ستدار على أساس الشرعية التوافقية لذلك فإن المطلوب من جميع القوى السياسية الحرص على استمرار الوفاق لكن على أسس واضحة وسليمة غير مغشوشة وعلى تلك الأطراف أن تعمل بكل الوسائل لتعزيز الاجماع الوطني وتطويره وتحصينه في اطار روح التسامح واحترام الآخر والتصرّف الحكيم والعقلاني لانجاح هذا المسار بأقل التكاليف وعلى الدولة بمختلف مؤسساتها أن تعمل بدورها على استتباب الأمن و انهاء بعض مظاهر الفوضى والعمل على اعادة النشاط الاقتصادي وتوفير الحدّ الأدنى من الظروف لايجاد الحلول للمطالب الحيوية الاجتماعية والاقتصادية للأفراد والجهات ..
حوار نور الدين بالطيب
الدكتور عبد اللطيف الحناشي من مواليد مدينة قابس سنة 1954
حائز على دكتوراه التاريخ المعاصر وهو أستاذ محاضر بكلية الأداب والفنون والانسانيات بمنوبة من أبرز أعماله:
تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية 1920 1955.
المراقبة والمعاقبة بالبلاد التونسية الابعاد السياسي نموذجا 1981، 1955 وهو معروف بنشاطه النقابي والحقوقي في تونس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.