يذكر الكثيرون دون شك مجموعة من العبارات والاستعارات «العجيبة» التي تظهر بين الحين والحين دون أن يعرف أحد كيف تفتّقت عنها الأرض أو من أي سماء هبطت.. من بين هذه الاستعارات تحضرني الآن عبارة «فلان بوجادي» التي انتشرت على امتداد الستينات من القرن الماضي، للإشارة الى الشخص الي يقحم أنفه في ما لا معرفة له به... والعبارة في الأصل نسبة الى Pierre Poujade رجل السياسة الفرنسي الذي أسّس سنة 1953 حركة شعبوية فجّة عُرفت باسم «البوجادية». وقد كون من الطريف والمفيد البحث عن خلفيات غياب هذه العبارة في الثمانينات واخلائها المكان لعبارة أخرى هي «فلان نفس مومنة»، فهل أصبحت الطيبة نوعا من «البوجادية» في هذا العصر؟؟ في مجال آخر وحين كانت اللغة الفرنسية سيدة المشهد الخلفي الذي تمتح منه «النخبة» المغاربية استعاراتها، ظهرت عبارة «فلان برانشي» (اقرأ Branché) للإشارة الى من كان مواكبا للمستجدات، فإذا لم «تتبرنش» فهذا يعني أنك من سكان الكهوف... الا أن الشارع سرعان ما رفض هذه الاستعارة «الوافدة» وأنتج استعاراته الخاصة، فدخلت على الخط عبارات كثيرة، من بينها عبارة «فلان قافز وفلانة قافزة» الخ... ثم قفزت اللغة الانقليزية الى الصدارة شيئا فشيئا، فتركت كلمة برانشي مكانها عند «النخبة» لتحل محلها كلمة أخرى هي اInب فإذا لم تكن In فهذا يعني أنك آوت Out (أي في التسلل، راحت عليك، باي باي يا عمري...) ومرة أخرى سرعان ما ترك الشارع «نخبته» تنعم باستعاراتها المستوردة، وقام بإنتاج عبارات أخرى منه واليه لتحقيق المعنى... ثم عصفت على هذه الكلمات كلها كلمة «نخبوية» أخرى مستنسخة هي «كُوووول» التي أصبحنا نسمعها في كل مقام ومقال، فلان cool وسيارته cool ملابسه (الخارجية أو الداخلية) cool وهذا الفيلم أو الحفل cool، وقد تقول لأحدهم إنك رأيت في التلفزيون صورا لكارثة كبرى فيجيبك وقد لمعت عيناه وسال لعابه كأنه دراكولا : كوووول. وكُل أيها المواطن السعيد ما أكل الطبل يوم العيد... طبعا ظلت النخبة العربية «الحداثية» تستورد الأفكار والاستعارات وظل الشارع يسارع الى «تحويلها» على طريقته والى الالتفاف عليها تعبيرا عن رغبته في انتاج خطابه بنفسه... هذا الشرخ الفاصل بين الشارع والنخبة (أو ما يسمى بالنخبة على سبيل المجاز) يضطرّ الواحد منا الى رسكلة نفسه يوميا (يسمّونها «تحيين» بالفصحى) كي لا يفوته القطار فإذا هو Out كما تقول النخبة، اي «كعبة لا في الحديقة» كما يقول الشارع الجميل... الكلمة الجديدة التي استوردتها «النخبة العربية» هذه الايام في انفصال تام عن «شارعها» هي كلمة «أجندة»... وهي كلمة معروفة متوفرة في كل المعاجم الفرنسية والانقليزية لكنها «وُلدت» من جديد عند تولي السيد دابليو بوش حكم الولاياتالمتحدةالأمريكية، ودخلت مرحلة النضج بعد الحادي عشر من سبتمبر، وأنجبت البنين والبنات مع انتشار التنظيرات اليمينية المحافظة المفيدة بأن هناك «أجندة» أمريكية لتغيير خارطة الشرق الاوسط وتغيير العالم، وأن من المصلحة أن يكون اسمك مدرجا في هذه الأجندة على لائحة «المرضيّ عنهم» والا أُشهرتْ في وجهك قوانين المحاسبة أو حُوصرت أو تم تحريرك وتخليصك من «إرهابك» واقتيادك الى الجنة بالسلاسل إن لزم الامر... ولما كان ذلك كذلك، فقد عرفت هذه الكلمة رواجها الحقيقي عن طريق ببغاواتنا العربية المنتشرة في كل مكان والمتفانية (كالعاد) في خدمة معلّميها وترداد كل كلمة تجيء من جهة «الباب العالي» الجديد وكل عبارة يمن بها الأسياد كما يمنّ صاحب القفص عادة على عصافيره بشيء من الزوان... أصبح البعض يتحدث عن الأجندة حتى وهو يقصد الذهاب الى «الحمام» او الى «الستاد» او الى سوق «الخردة»... ما هي أجندتك اليوم؟ هكذا يسألك أحدهم دون ان يرف له جفن... ويلزمك وقت طويل وأعصاب نووية كي تفهم بعد جهد جهيد أنه يسألك في أي مقهى ستجلس وماذا ستلعب؟ دومينو أم بازقة؟؟ والغريب أن بعضهم يتصور باستعماله كلمة أجندة أنه يتقرّب من ماما أمريكا (أو يلحّس لها... كما تقول عاميتنا الجميلة) طمعا في أن يكون له موعد معروف لأخذ المصروف... هكذا غرق العالم تحت وابل من «الأجندات» التي لا أجندة فيها ولا هم يؤجندون... الجميع أصبح يستعمل هذه الكلمة، واذا سوّلت لك نفسك (الأمّارة بالسوء، أعرفها...) بأن تعترض على أحدهم فتقول له اذا هو نطق بكلمة أجندة : تقصد «جدول أعمال» أو «مفكّرة»؟؟ فالويل ويا للويل ويا لللهوووول... أنت بذلك تفضح نفسك وتكشف للجميع أنك ضد العصر أي غير واقعي وأنك «محافظ» لغويا أي رجعيّ أو قومجي أو شيوعي هذا اذا لم يتضح أنك من «الحرس القديم» وهذه عبارة أخرى قديمة جديدة أحيلت على التقاعد بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي السابق وأعيدت الى الخدمة هذه الايام... الغريب أن أحدا لا يساءل هذه الاستعارات التي نعيش بها (التعبير لجورج لايكوف ومارك جونسون) والتي تتلاعب بعقولنا فيما هي تتخذ شكل الامر الواقع... كلمات حمّالة أوجه مثل «أجندة» أو «سلام» أو «ارهابي»، تتهاطل علينا دون أن نساهم في تحديد مضامينها، وغالبا ما تفرض علينا الفهم الخطأ، كذاك الذي يخلط بين المقاومة والارهاب... لكن أغلب أبطال «نخبتنا» السياسية او الاعلامية «الرسمية» يبدون غير راغبين في التعب من أجل التفكير فيها أو في طرح الأسئلة أصلا هذه الايام... لذلك يكتفون بمضغ اللُقم «الباردة» التي يُلقى بها اليهم دون أن ينتبهوا الى أنهم يعلكون علكة معلوكة؟ لماذا لا يتعلمون من شوارعهم؟ لماذا ينخرطون في «بوجادية» جديدة قائمة على التسلية والاستهلاك والتضليل والتخدير؟ لماذا يصرّون على أن الأسئلة وثقافتها نكد لابد من اجتثاثه رأفة بالمواطنين؟ لماذا يروّجون لنزعة تجهيلية تشترك مع «البوجادية» في عداوتها للثقافة؟ ألم يقل رولان بارط منذ 1955 : إن النزعة البوجادية هي تلك التي تعتبر الثقافة مرضا من الأمراض؟؟