لا شك بأن وضع الانسان المناسب في المكان المناسب قاعدة ضرورية لا مفر من الالتزام بها لإتقان أي عمل مهما كان ميدانه ونوعيته. إذ أن إنجازه على الوجه المرضي يوجّب على القائم به خبرات ومهارات لا يتيسر اكتسابها إلا بالمممارسات الطويلة والأقدمية الكافية في هذا المجال وإني أزعم بكثير من اليقين، بأن عدم تمسكنا بهاته القاعدة ومنذ أكثر من ستين سنة، قد نتج عنه أكثر ما نعانيه من أزمات خانقة لم نوفق في إيجاد الحلول الناجعة لها لحد التاريخ بل ازدادت الأوضاع تعقيدا وتعفّنا ونكاد نشرف على الانهيار. إنه من العبث واللامعقول أن تسند مسؤوليات إدارة وتسيير وزارات ومؤسسات عمومية، إلى أشخاص لا صلة لهم بهاته المناصب، ولا تتوفر فيهم الكفاءات الضرورية للقيام بها بشكل سليم يفيد الصالح العام ويدفع بالوطن إلى الأمام، وكأننا نكلف شخصا لا علاقة له بالبحر، بتولي قيادة سفينة معقدة التجهيزات، والعواصف تهب من كل الجهات والصخور تنتشر في الكثير من الاتجاهات بدلا من إسنادها إلى ربان خبير بمسارات البحر الآمنة، وقادر على مواجهة غضب الموج والرياح وفخاخ الصخور وإيصالها إلى برّ الأمان. إن النجاعة تقتضي بأن نعين «أهل الذكر الذين يعلمون» بتحمّل هاته المسؤوليات الكبرى التي تحدد مصير شعب كامل فهم أكفأ من غيرهم للقيام بها وحسن التصرف في تسييرها. وعلينا أن نقتنع بأن «سوء التصرف» الناتج عن انعدام الخبرة هو من الأسباب الرئيسية في فشلنا، ولا يتعلق الأمر بقلة الموارد فقط، فسنغافورة مثلا والتي أحرزت على استقلالها بعدنا سنة 1965 فإنها رغم ما كانت تعانيه من فقر وضعف إمكانيات فإنها بفضل حسن التصرف تحولت إلى دولة رائدة تحتل مكانتها في الصفوف الأولى من الدول المتقدمة. فمتى نهتدي لوضع الإنسان المناسب في المكان المناسب ليحسن التصرف في ما لدينا من ثروات بشرية ومادية؟ ولا شك بأن أوضاعنا ستزداد سوءا إذا اكتفينا بتغيير حكومة وعوضناها بحكومة أخرى دون مراعاة القاعدة المذكورة. وفي هذا المجال فإنه من المناسب الاستشهاد بما ورد بنص شعري كتبه الشاعر الفرنسي «فلوريون» القرن الثامن عشر يروي خلاله بأن أبا كلف ابنه بحراسة ما يملك من أبقار، فتعهد بالقيام بذلك. وذات عشية أقبل إليه صياد غزلان وأعلمه بأنه أنهكه التعب من ملاحقة غزالة لم يتمكن من صيدها، واقترح عليه بأن يتولى الأمر نيابة عنه فقبل ذلك بدون تردد، غير أنه عندما أدرك الغزالة وأطلق عليها النار أخطأها وأصاب كلب الصيد. فعاد إلى الصياد فوجده نائما، وقطيع البقر تمت سرقته، فأعلم أباه بذلك فأجابه بهاته الحكمة الرائعة: (عندما يشتغل كل أحد بالمهنة الخاصة به، فإن الأبقار تكون في حراسة آمنة). ألا تصور هاته القصة الصغيرة وضعنا الحالي بكل وضوح؟ ألا تمدّنا بمفتاح الخلاص؟ فمن يسمع..؟ وهل تصل هاته الكلمات إلى آذان أولئك الجالسين على الكراسي بقصور باردو والقصبة وقرطاج، حيث أسندت الكثير أو البعض من المناصب إلى غير «أهل الذكر الذين يعلمون»؟!