هنّ مناضلات بأتم معنى الكلمة.. نساء كادحات تعملن بجد وتفان لا من أجل تحصيل لقمة العيش فحسب، بل لتحقيق ذواتهن ومقارعة الرجال في العمل بل وتجاوزهم في معاني التضحية ونكران الذات وحرص كبير على المحافظة على موروث يكاد أن يتلاشى. مكتب نابل (الشروق) نحن هنا في حضرة نساء الوطن القبلي وبصفة خاصة مدينة نابل هن نسوة يعطين المثال دوما في معاني التضحية والعمل أو كما يعتبره «النوابلية» «ثني الركب» في إشارة للعمل الدؤوب والجهد والتعويل على الذات. «الشروق» قامت بجولة في السوق البلدي بنابل المخصص لبيع التوابل ومشتقاته وكل ما يستحقه المطبخ. هناك تجذبك الروائح المميزة للتشكيلات الفردية للأنواع المختلفة من التوابل على غرار التابل والكروية والهريسة العربي والكمون والفلفل المجفف والثوم... وما يجلب انتباهك أكثر القائمين على هاته الفضاءات والمحلات التجارية التي تديرها نسوة حتى أن الحرفاء أغلبهم من النساء اللاتي يأتين لهذا المكان لاقتناء ما يلزم من «العولة» خاصة أثناء هذه الفترة من السنة والأيام القادمة التي ستتزامن مع دخول فصل الشتاء حيث يكثر خلالها استعمال التوابل والبهارات لمقاومة نزلات البرد من خلال إعداد «الأكلات الجارية» على غرار المحمص والبرغل والمقرونة «المحرحرة والموزوزة». ازواجنا سندنا الاول في مدخل السوق التقينا نادية الكردي صاحبة محل لبيع التوابل التي استقبلتنا كما تستقبل حرفاءها بترحاب كبير وابتسامة عريضة و أكدت بكل فخر أنها تعمل في هذا الميدان منذ أكثر من 12 سنة دون كلل أو ملل خاصة وانها مهووسة بالتجارة بصفة عامة وميدان التوابل بصفة خاصة، وقالت إنها تقتسم الأدوار بينها وبين زوجها الذي يضطلع بمهمة التنقل من مكان لآخر لتزويد المحل بالبضاعة والتعامل مع المزودين والتجار بينما تدير هي المحل لساعات طويلة في اليوم دون الشعور بالتعب أو الملل، وتقول مازحة «نحن النساء لا نحس بالضجر أو التعب لو بقينا يوما كاملا عكس الرجال الذين لا يطيقون صبرا ويشعرون بالملل بسرعة». وذهبت محدثتنا إلى أكثر من ذلك من خلال التأكيد على أن العنصر النسائي مطلوب في مثل هذه التجارة بالنظر لنوعية الحرفاء الذين يكونون في أغلب الاحيان من النساء العارفات بنوعية المنتوجات التي تستحقها في مطابخهن ويفضلن التعامل مع النساء أكثر من الرجال لدارية الطرفين بالميدان. في زاوية أخرى من السوق، وجدنا السيدة إيمان الأعور بمحل تجارتها صحبة زوجها حيث كانت تتولى عمليات البيع والتواصل مع الحرفاء بينما عهدت مهمة تنظيف المحل وتصفيف السلع لزوجها الذي لا يتدخل البتة في عمليات البيع والشراء وهو ما يعزز ما ذهبت إليه محدثتنا السابقة. تقول السيدة إيمان إنها دخلت معترك هذه المهنة منذ ما يزيد عن ثماني سنوات من خلال بعث مشروع مشترك مع زوجها وأكدت في هذا الصدد «رغم الصعوبات العديدة التي واجهناها في البداية إلا أن اصرارنا على النجاح والمضي قدما ساعدانا على تجاوزها وأصبح لنا اليوم حرفاء قارون بفضل السمة الجيدة التي حضينا بها». وعرجت محدثتنا على معطى آخر لا يقل أهمية من خلال التأكيد على أن الجيل الجديد من ربات البيوت أصبحن غير قادرات أو يعجزن عن تحضير العولة بأنفسهن في منازلهن إما لعدم تفرغهن أو للتغير الحاصل بالمجتمع من خلال تنامي ظاهرة الاستهلاك والتعويل على المنتوجات الحاضرة وهو ما ساهم في ازدهار تجارة التوابل وكل المنتوجات الاخرى «الدياري» على غرار الكسكسي والمحمص والقديد والهريسة العربي ... نجاح العزيمة والإصرار غير بعيد عن محلات بيع التوابل يتواجد محل لإعداد السلطة المشوية وخبز الطابونة على ملك السيدة شهيرة بوفايد وهو في الحقيقة اسم أشهر من نار على علم بالوطن القبلي وببعض مناطق الجمهورية. فبفضل 20 سنة من التجربة في الميدان اكتسبت السيدة شهيرة خبرة واسعة وإشعاع منقطع النظير أهّلاها لأن تكون مشهورة ورائدة في مجالها وهي التي أصبحت تمثل تونس في عدة محافل ومعارض دولية في الداخل والخارج. حاولنا الغوص أكثر فأكثر في هذه التجربة الفريدة وقصة النجاح التي لازمتها منذ سنوات. فرغم العدد الكبير من الحرفاء الذين يتدافعون أمام محلها للظفر بما تيسر من السلطة المشوية وخبز الطابونة الشهيين، إلا أن محدثتنا قبلت الحديث إلينا رغم انشغالها الكبير في تحضير السلطة المشوية الفورية التي تلبي طلب حرفائها من خلال تحضيرها من أول مراحل إعدادها إلى نهايتها وهي من أكثر الأسباب التي تزيد من اقبال الحرفاء على بضاعتها. تقول محدثتنا بكل فخر إنها تعلمت أبجديات هذه المهنة من جدتها بالإضافة إلى اكتسابها خبرة إضافية من خلال حصولها على شهادة في اختصاص التغذية مما ساعدها في الغوص اكثر في اصولها. ولم تخف في الآن ذاته الصعوبات والعراقيل الكثيرة التي واجهتها في البداية من خلال مزاحمة العنصر الرجالي وعدم تقبلها في بادئ الامر إلا أنها وبفضل عزيمتها الفولاذية ومثابرتها والتركيز على جودة منتوجها تمكنت من فرض نفسها وتسجيل اسمها بأحرف من ذهب مما أهلها لتمثيل تونس في عدة بلدان أجنبية على غرار بلدان الخليج والمغرب وفرنسا وإيطاليا وحصولها على عدة ميداليات وجوائز نظير تميز منتوجها وإقبال الحرفاء عليه، كما أنها كُرمت من طرف رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي لحصولها على الجائزة الوطنية لمنتوجات الصناعات التقليدية. السيدة شهيدة تمكنت بفضل معرفتها وخبرتها في المجال من تطوير بعض منتوجاتها من خلال استغلال بذور الزيتون والتين الشوكي ورحيها وتحويلها إلى أنواع محببة من «البسيسة». كما شدّدت محدثتنا على أن كل منتوجاتها تخضع مسبقا للتحاليل اللازمة والتي تشير جميعها إلى استجابتها للمعايير الضرورية وشروط الصحة. وختمت محدثتنا لقاءها معنا بالتأكيد على أن المرأة التونسية مناضلة ومجاهدة ولا تطلب سوى الإحاطة بها وتشجيعها من طرف السلط الرسمية وقالت إنها تمكنت من توفير ثماني فرص شغل بصفة قارة وعشرين آخرين بصفة موسمية بمحلها.